
تحدثنا في مقالنا الأول من سلسلة "ما هي عوامل تحقيق الابتكار المستدام في المؤسسات غير الربحية؟" عن العوامل الستة التي تمكن المؤسسات من التفوق في طرح الأفكار المبتكَرة بشكل متواصل. وشرحنا العاملين الأول والثاني عبر مقالنا الذي كان بعنوان: "القيادة التي تحفز الابتكار وثقافة الفضول". وشرحنا العاملين الثالث والرابع في مقال "الفرق المتنوعة والحدود المرنة من عوامل الابتكار المستدام" وفي هذا المقال سنستكمل الحديث عن العاملين الأخيرين من عوامل بناء القدرة على الابتكار المتواصل للمؤسسات غير الربحية.
العامل الخامس: مسارات الأفكار
يلاحظ إريك رايس في كتابه "الشركة الناشئة الرشيقة" (The Lean Startup)، على الرغم من أن الابتكار "أمر لا يمكن التنبؤ به؛ لكن ذلك لا يعني أنه لا يمكن إدارته"؛ حيث يقوم الابتكار الفاعل على نظرية بسيطة: طرح الكثير من الأفكار، واستخدام معايير ومقاييس متسقة لترتيب الأولويات بينها، والاستثمار في أكثر الأفكار الواعدة بينها؛ وبالتالي زيادة احتمال أن تؤدي واحدة أو اثنتان إلى تحقيق إنجاز عظيم، وكما يوضِّح إريك؛ يمكن أن يكون مفهوم منتَج الحد الأدنى (MVP) أداةً فعالةً ومنخفضة التكلفة لاختبار الأفكار على أرض الواقع: ابنِ نموذجاً أولياً يحتوي على الحدّ الأدنى من الميزات (لسرعة وكفاءة الاختبار)؛ لكنه ناجع بما يكفي ليعمل ويحقق نتائج يمكن للموظفين الاستفادة منها.
استناداً إلى المقابلات ونتائج الاستقصاء الذي أجريناه، اعتمدت قلّة من المؤسَّسات غير الربحية مثل هذه الممارَسات؛ لكن لا يتطلب الأمر قدراً هائلاً من التخطيط لتحديد مسارات وعمليات واضحة لإظهار ابتكارات جديدة واختبارها وتقديمها.
المؤسَّسات ذات مسارات الأفكار الفعالة:
- تبتكر أفكاراً جديدةً بانتظام.
- تختبر الأفكار المطروحة باستخدام معايير ومقاييس ومنهجيات واضحة المعالم.
- ترتب أولوية أفضل الأفكار وتوسّعها.
لسنوات عديدة؛ كانت مؤسَّسة "وَن إيكر فاند" (One Acre Fund) التي تعمل مع 500 ألف من صغار المزارعين في إفريقيا، لرفع غلات المحاصيل وزيادة الأرباح من مبيعاتها إلى أقصى حد ممكن، تتعامل مع الابتكار مثل معظَم المؤسَّسات غير الربحية – بشكل متقطع وغير رسمي؛ عرّفت قيادتها شبكة المزارعين في عام 2008 على نوع جديد من المحاصيل: فاكهة الماراكويا؛ لكن الخط البياني للطرح التمهيدي للمنتَج كان مستقيماً؛ لم تُعجب زراعة تلك الثمرة اللحمية المزارعين، وحتى الذين زرعوها منهم واجهوا صعوبةً في توصيل المحصول سليماً إلى السوق.
كان فشل مشروع فاكهة الماراكويا انتكاسةً باهظة الثمن؛ لكن أدرك قادة المؤسَّسة أن الفشل يمكن أن يؤدي إلى التعلم والتغيير والتحسين، فشرعت مؤسَّسة "وَن إيكر" في تطوير مسارات الأفكار المصمَّمة على غرار ممارَسات كبرى شركات السلع الاستهلاكية المعبَّأة الهادفة للربح، ويمكن تنظيم هذه المسارات على أساس المراحل المقترنة بتحويل الأفكار إلى حلول مكتملة الأركان:
على وجه التحديد؛ جددت مؤسَّسة "وَن إيكر فاند" أسلوبها في تطوير المنتجات الجديدة؛ وذلك بتقديم الإجراءات إلى المصدر، واختبار الأفكار وقياسها، لتضمن مؤسَّسة "وَن إيكر فاند" أن المنتجات الجديدة ستكون فعالةً وقابلةً للتبني وقابلةً للتنفيذ، دُمجت هذه الأهداف في معايير الاختيار الخاصة بها، ثم طورت عمليةً واضحةً متعددة المراحل؛ وهي اختبار الأفكار والتنقيح الأولي لها، والتجارب الميدانية الصغيرة، والتجارب الميدانية الأكبر، وذلك لتضمن أن تستوفي الابتكارات لمعايير كل مرحلة قبل توسيع نطاقها إلى كامل شبكة المزارعين.
أجرى فريق ابتكار المنتجات في مؤسَّسة "وَن إيكر" في عام 2011، استقصاءً لشبكتها من الباحثين والمزارعين الكينيين؛ من أجل وضع قائمة بأنواع الأشجار التي قد تقدم عائداً طويل الأمد للمزارعين، وبعد تقييم العوائد الاقتصادية المحتمَلة للعديد من الأنواع، اتفق الفريق على أن شجرة جريفيليا تبدو أكثر الأنواع المبشِّرة، بناءً على قدرة الشجرة على النمو بسرعة وتحسينها لجودة التربة (من خلال نشارة أوراقها).
ثم وضع الفريق نموذجاً أولياً للفكرة بتنمية شجرة جريفيليا في مشتل، وبعد العمل على مواجهة بعض التحديات التقنية؛ مثل أفضل السبل لزراعة الأشجار، وغرسها في أنواع مختلفة من التربة، نقل الفريق شجرة جريفيليا إلى المرحلة التجريبية: الاختبار المباشَر في أراضي المزارعين الفرعية، ولم تقدِّم مؤسَّسة «وَن إيكر» شجرة جريفيليا إلى شبكتها من المزارعين في كينيا، إلا بعد تحديد أن الأشجار ستوفر دخلاً إضافياً للمزارعين – وبعد حل جميع أوجه التردُّد الرئيسية -؛ حيث زرع كل مزارع 50 شجرة وسطياً.
من خلال بناء مسارات محددة بوضوح لتطوير الأفكار؛ أدخلت المؤسَّسة سلسلةً من المنتجات الجديدة، بالإضافة إلى شجرة جريفيليا؛ التي زادت دخل المزارعين من الأنشطة المدعومة من مؤسَّسة «وَن إيكر» بنسبة 55% وسطياً.
العامل السادس: الموارد الجاهزة
كم مرةً سمعت أن الابتكار يولد في بيئة تنعدم فيها الموارد؟ ربما تمكّنت شركات مثل "جوجل" و"آبل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" و"ديزني" و"هيوليت-باكارد" (آتش بي) من تدبّر أمرها بالنجاح دون موارد لفترة وجيزة عندما كانت شركات ناشئة؛ لكنهم ينفقون الآن مليارات الدولارات كل عام على الابتكار، ولديهم الآلاف من الموظفين يعملون على ابتكار منتجات جديدة.
تدرك هذه المؤسَّسات أن مواصلة الابتكار على المدى الطويل تكاد تكون مستحيلة دون تخصيص التمويل والوقت والتدريب والأدوات لذلك، وينطبق الشيء نفسه على القطاع الاجتماعي، وإذا طبَّقت المؤسَّسات غير الربحية التي تمرّ بضائقة مالية بعض الاختلافات في نهج إريك رايس: "جرب القليل، وتعلَّم الكثير" لتدقيق الأفكار، فيمكنها تقليل المخاطر من خلال عدم تخصيص الموارد إلا بعد أن يُظهِر منتج أو خدمة جديدة إمكانيات كبيرة.
المؤسَّسات التي تهيّئ الموارد للابتكار:
- تجمع الموارد المالية وتخصصها لتوفير تمويل مرن للابتكار.
- هيكلة أدوار الموظفين لإتاحة التركيز على الابتكار، إلى جانب تنفيذ البرامج والعمليات الراهنة.
- تستثمر في دعم التقنيات والأدوات والتدريب.
إن توفير الموارد للابتكار صعب؛ حتى بالنسبة للمؤسَّسات غير الربحية الرائدة. منظَّمة "أوكسفام" الدولية هي اتحاد يضم 20 مؤسَّسة غير حكومية تعمل في أكثر من 90 دولة للقضاء على الفقر؛ من خلال الدعم وبرامج التنمية والإغاثة في حالات الكوارث، وتمتلك المنظَّمة أكبر كمّ من الموارد وأفضلها بين العديد من المؤسَّسات غير الربحية، بإجمالي نفقات بلغ 1.2 مليار دولار في عام 2016؛ لكنها ما زالت تستصعب تخصيص مال ووقت للابتكار.
لإتاحة البرنامجية الأكثر تكيفاً؛ يعمل فريق جمع التبرعات في «أوكسفام» على مشارَكة المانحين أهمية جعل المنح المقيدة أكثر مرونةً، واختبار إمكانات آليات التمويل البديلة؛ من بينها الدفع حسب النتائج والاستثمار المؤثر. إن آليات التمويل الأكثر مرونةً تلك والاستخدام الرشيد للتبرعات العامة، تمكّن منظمة «أوكسفام» من الاستثمار في مجموعات الأدوات والتدريب والدعم الاستشاري للموظفين، وتزويد الفرق بتمويل مرن لإجراء التجارب؛ وأدى هذا بدوره إلى إنشاء برامج لم تكن لتُنشَأ لولا ذلك.
لكن حتى مع وجود تمويل أكثر مرونةً وأدوات أفضل للابتكار؛ لا يزال الضغط المهيمن لإنجاز العمل اليومي قائماً. يقول جيمس وايتهيد؛ مستشار في مجال الابتكار في منظمة "أوكسفام" في بريطانيا العظمى: "إن أكبر تحدٍ في الابتكار تواجهه منظمة مثل "أوكسفام" هو تخصيص الوقت للعمل من أجل المستقبل؛ بدلاً من الوقوع في أسر استبداد الحاضر".
لمواجهة هذا التحدي؛ تختار منظمة "أوكسفام" الموظفين القطريين لأخذ وقت مستقطع من روتينهم اليومي والانخراط في تجربة غامرة تركز على تعزيز الابتكار؛ صُمِّمَت "مسرعات حجم التأثير" هذه لدعم الموظفين في تكوين وجهات نظر جديدة في عملهم، وصياغة مبادرات مع إمكانية زيادة أثر منظمة "أوكسفام" وتأثيرها ودخلها بشكل كبير؛ جمعت مسرِّعة الأعمال في أفريقيا مشارِكين من تسع بلدان لتشكيل مبادرات جديدة تتوافق مع استراتيجيات الدولة.
تتنوع هذه المبادرات الأولية بين زيادة مشارَكة المواطنين في مجال الصناعات الاستخراجية في تنزانيا وتوسيع نطاق الابتكار على مستوى النظام في توفير المياه في شمال كينيا، كما أنشأت "أوكسفام" صندوقاً يوفر موارد متواضعةً لاختبار نماذج الأعمال التكميلية؛ التي تشمل تطوير منصة تعليمية عالمية على الانترنت للناشطين، وإنشاء منصات دعم بين الأقران.
ستظهر نتائج مسرِّعات "أوكسفام" خلال الأشهر والسنوات اللاحقة؛ لكن بحثنا يشير إلى أن منطقهم العام المتمثِّل بوجود موظفين محددين يخصصون وقتاً لغاية واضحة؛ وهي تطوير نهج جديدة لتحقيق أثر أكبر؛ يدمج الابتكار في عمل المؤسَّسة اليومي ويحافظ عليه مع مرور الوقت.
الابتكار ليس حلاً سحرياً يجعل المؤسَّسة قادرةً على مواجهة مستقبل مليء بالتحديات تلقائياً، كما لا يوجد مخطَّط وحيد لبناء القدرة على الابتكار؛ يجب على القادة من كل المستويات أن يسخّروا خيالهم وخبراتهم لمواجهة التحديات، ويستنتجوا الأفضل لمؤسَّساتهم، لكن مع ذلك؛ تشير الاستقصاءات والمقابلات التي أجريناها إلى أن هذه العوامل الستة هي نقاط انطلاق مفيدة لبناء القدرة على الابتكار المتواصل؛ وبالتالي تحقيق أهم إنجاز: تعزيز رفاه الإنسان والبيئة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.