لماذا نتواطأ مع الأشخاص المؤذين؟

6 دقائق
التواطؤ
shutterstock.com/inimalGraphic

منذ حوالي 20 عاماً، أخبرني أحد طلاب الأعمال أنه سيتوقف عن حضور محاضرات مادة الأخلاقيات التمهيدية، ليس بسبب عدم استمتاعه بحضور المحاضرات، بل لأنه لا يجد مكاناً للتحليل الأخلاقي العميق في تطلعاته المهنية على حد تعبيره. في ذلك الوقت بدأت كليات إدارة الأعمال في دمج مادة الأخلاقيات في مناهجها الدراسية، وفقاً لما ذكره الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال ماكس بازرمان. وكان بازرمان مناصراً لهذه الحركة التي ابتعدت عن تدريس الأخلاق المعيارية التقليدية لتتجه إلى تدريس الأخلاق السلوكية التي تركز على دراسة تصرفات الناس على أرض الواقع.

يواصل بازرمان هذا المسار في كتابه الأخير "التواطؤ: كيف نساعد السلوكيات غير الأخلاقية وكيف نمنعها" (Complicit: How We Enable the Unethical and How to Stop)، الذي يحاول فهم الأسباب الغامضة لتجاهل الناس المحترمين ظاهرياً للسلوكيات المؤذية لرؤسائهم وزملائهم وشركائهم في العمل أو رفض الاعتراف بها أو مساعدتهم عليها. ويستعرض الكاتب مجموعة واسعة من الشخصيات المشهورة بسوء السمعة مثل مدراء شركة بوردو فارما (Purdue Pharma) التي توزع مواد مُخدرة، والمؤسِّسة والرئيسة التنفيذية لشركة ثيرانوس (Theranos) إليزابيث هولمز، والمؤسس الشريك والرئيس التنفيذي لشركة وي وورك (WeWork) آدم نيومان، والمنتج السينمائي السابق والمدان بجرائم أخلاقية هارفي وينشتاين، ليس بهدف شرح سلوكهم بل لدراسة الطرائق التي اعتمدوا بها على تواطؤ الآخرين.

الأهداف

ويرمي كتاب "التواطؤ" إلى ثلاثة أهداف. الهدف الأول هدف وصفي يوضح فيه مواصفات الأنواع المختلفة من التواطؤ. والهدف الثاني هدف تفسيري يستخدم مفاهيم الأخلاق السلوكية للإجابة عن سؤال "لماذا يتعاون الناس مع مرتكبي الأذى". ويمكن أن نطلق على الهدف الثالث هدفاً إصلاحياً، أو عرضاً "لأفكار تسهم في تقليل التواطؤ". ومن المؤكد أن دراسات الحالة الغنية لبازرمان تلبي الهدف الوصفي وقد تشجع القراء على التفكير في الطرائق التي كانوا أو يمكن أن يكونوا فيها متواطئين في ارتكاب تجاوزات.

لكن الحظ لم يحالف بازرمان في الهدفين التفسيري والإصلاحي. حيث تتحول مفاهيم الأخلاق السلوكية ومصطلحاتها إلى مجرد طرق التفافية لإعادة وصف الإجراءات التي يسعى إلى شرحها. لذلك نجد توصياته حول كيفية تجنب التواطؤ لا تعدو أن تكون مجرد دعوة للتفكير قبل الإقدام على التواطؤ. ثم إن اقتراحاته عن "كيف يمكن للقادة إنشاء مؤسسات يقل فيها التواطؤ" تعرّض هذه المؤسسات لمخاطر أخلاقية خطرة.

يبدأ بازرمان بالتمييز بين "المتواطئين الواضحين" و"المتواطئين العاديين". إذ يتماشى المتواطئون الواضحون مع مرتكب الخطأ لأنهم يشاركونه في القيم والأهداف، أو ببساطة لأن التماشي معه مفيد لهم من الناحية الاستراتيجية. وفي المقابل، فإن المتواطئين العاديين هم "الأشخاص العاديون الذين يسمحون للضرر بالتطور نتيجة لسلوكياتهم الضمنية غير المتعمدة"، ويركز بازرمان بشكل أساسي على تلك الفئة من الناس، ويعرض بطريقة مقنِعة حقيقة التواطؤ ومخاطره في حياتنا اليومية، مثل التحيزات التي تجعل ذوي النوايا الحسنة غير مدركين لسلوكهم العنصري، من الإيمان بفكرة المُخلص ذي البشرة البيضاء إلى الإساءات البسيطة الموجهة للأقليات. حتى إن بازرمان يروي قصة بحجم فصل من كتاب عن تواطئه في نشر تقرير يستند إلى بيانات مزورة الذي تراجع عنه فيما بعد.

يخصص بازرمان غالبية الكتاب للمتواطئين العاديين، ويحدد خمس سمات للتواطؤ العادي، وهي إطالة الظلم البنيوي بسبب عدم إدراك المرء لامتيازاته؛ وتعطيل القدرات الفكرية للفرد بوضعها تحت سيطرة "محتالين" مثل هولمز أو نيومان؛ والإذعان المفرط للسلطة من منطلق الولاء غير المبرر، كما هو الحال عندما تتجاهل إدارات الجامعات تقارير السلوك الأخلاقي المنحرف للمدربين الرياضيين؛ والثقة الزائدة في العلاقات المهنية، كما هو الحال عندما وصف بازرمان مشاركته في وضع تقرير إشكالي؛ واستحداث ممارسات غير أخلاقية أو تبنيها، كما هو الحال عندما يقبل الأطباء هدايا من شركات الأدوية لوصف أدوية معينة.

يتناول بازرمان الهدف التفسيري بشكل أساسي في الفصل الخاص بالتواطؤ من منظور علم النفس، الذي يحدد فيه العديد من "الآليات النفسية" المسببة للتواطؤ العادي. ومع أن الاحتكام إلى الآليات النفسية قد يضفي صبغة علمية دقيقة على الأخلاق السلوكية، فإن التي يناقشها بازرمان سطحية كلياً. على سبيل المثال، يتحدث بازرمان عن الفرق بين الإيمان والعقل في محاولة منه لشرح أسباب سقوط المستثمرين ذوي الخبرة المالية الكبيرة والشركات الضخمة ضحايا الضجة الإعلامية الجذابة لهولمز ونومان. ويعرّف الإيمان بأنه "اعتقاد قوي وراسخ دون دليل أو برهان"، وهذا التعريف ما هو إلا تعريف الوقوع في حب المحتالين فعلياً. وبالتالي، فإن قوله إن الضحايا آمنوا بهولمز ونومان لا يعطي القراء أي سبب منطقي لانخداعهم.

لا يكفي التأكيد أن التواطؤ طبيعة البشرية، والناس ليسوا ألعوبة آلياتهم النفسية، يعي الناس ما يفعلون.

ثمة نقص مشابه في تناول بازرمان للأشخاص الذين ساعدوا في حدوث التجاوزات الأخلاقية المستمرة لهارفي وينشتاين ولاري نصار وجيري ساندوسكي ومدراء الإدارة الوسطى والمهندسين الذين غضّوا الطرف عن المخالفات الصناعية في شركات بوينغ، وجنرال موتورز، وفولكسفاغن. ويقترح بازرمان هنا أن مزيجاً ساماً من الولاء والإذعان الشديدين للسلطة يكمن وراء هذا السلوك. ومرة أخرى، يظل القارئ غير قادر على فهم سبب عجز الناس عن التفكير في أفعالهم أو حتى التشكيك في قيم مؤسسات وتقاليد معينة، فهو يكتفي بتعريف الولاء بأنه "الالتزام بالعمل وفقاً لمصالح شخص آخر، أو أشخاص آخرين، أو مؤسسة ما دون التفكير إذا ما كان هذا العمل عقلانياً أو أخلاقياً"، والإذعان للسلطة على أنه إعطاء قيمة كبيرة "للمؤسسات والتقاليد".

وما يثير القلق في هذه "التفسيرات" غير المرضية أنه بالتركيز على هذه الآليات، يتجاهل بازرمان حقيقة أن المتواطئين العاديين ليسوا ضحايا طائشين لنفسياتهم وليسوا مستسلمين لما تمليه عليهم، بل أناس واعون، يقيّمون المواقف، ويتخذون القرارات، ولهم كامل الحرية باختيار أفعالهم كما توضح الأمثلة التي أوردها في هذا الفصل.

ولننظر أولاً في قول بازرمان "إنه عندما نحدث ضرراً بشكل غير مباشر ونستفيد من هذا الضرر، فإننا نبرره بسهولة أكثر من حين نحدثه بشكل مباشر". فهو لا يناقش هذه الآلية حين يتحدث عن مساعدي وينشتاين الذين "قدموا عن قصد النساء اللائي اعتدى عليهن تحت تسمية"FOH" أو "صديقات هارفي"(على هواتفهم) وتركوا عشرات النصائح لخلفائهم من المساعدين حول كيفية ترتيب مثل هذه اللقاءات"، على الرغم من أنها ذات صلة مباشرة بهم. ومع ذلك، كان هؤلاء المساعدون يعرفون ما الذي يجري أو كانت لديهم فكرة جيدة جداً عنه واتخذوا قرارات أفعالهم بنفسهم. ربما ظن بعضهم أنه بما أنهم لم يسيئوا إلى أولئك النساء، فلا إثم عليهم. لكن بالتأكيد أراد الكثير منهم الاحتفاظ بوظائفهم وتجنب إغضاب مدرائهم. في الواقع، يشير بازرمان نفسه إلى الخوف باعتباره دافعاً قوياً للسلوك المتواطئ. ومع ذلك، فإن الخوف لا يعد نوعاً من "النظرية النفسية المعقدة" التي يدّعي أنها مطلوبة لتفسير التواطؤ العادي.

أو ما وصفه "بالمنحدر الزلق إلى التواطؤ"، عندما قال: "يكون الناس أكثر استعداداً لاتخاذ سلوك غير أخلاقي عندما تتاح لهم الفرصة لزيادة التخلي عن الضوابط الأخلاقية تدريجياً". وهذا وصف عام للطبيعة البشرية. يعلم الموظف من زملائه أنهم لا يبلغون عن جميع الأيام التي يغادرون فيها المكتب مبكراً، وبالتالي يبدأ بتزوير سجل الدوام الخاص به. ويقول لنفسه إذا كان الجميع يفعل ذلك فلمَ لا أفعل فعلهم. وهنا أيضا يتخذ المتواطئ القرار بملء إرادته وليست هناك حاجة إلى "آليات نفسية" معقدة لشرح هذا السلوك.

التواطؤ والطبيعة البشرية

قد لا يبتعد التواطؤ العادي كثيراً عن الطبيعة البشرية. فليس غربياً أن يتسم البشر بالأنانية أو الجشع أو الحذر من فقدان وظائفهم، وقد يرغبون في إثارة إعجاب مدرائهم أو الاقتراب من السلطة، فهم يميلون إلى الكسل ويغرقون في الأمنيات ويسهل تشتيت انتباههم. قد تصف مصطلحات جذابة مثل "الأخلاق المقيدة" و"النقاط الأخلاقية المبهمة" هذه السلوكيات، لكنها لا تقدم إجابات للسؤال المركزي في هذا الكتاب. لا يكفي التأكيد أن التواطؤ طبيعة البشرية، والناس ليسوا ألعوبة آلياتهم النفسية، فهم واعون وقادرون على التفكير واتخاذ القرارات.

وفي الوقت نفسه، قد توفر الأطر الوصفية كالتي قدمها بازرمان توجيهات ممكنة التطبيق لتقليل السلوكيات غير الأخلاقية المسببة للتواطؤ أو القضاء عليها.

ولكي يخفف الناس من حجم التواطؤ يجب أن يتحلوا "بالشجاعة، والتدبير، والعدالة، والصلابة، والكفاءة" كما قال بازرمان. ويجب عليهم "تحكيم عقولهم" و"تذكر القيم" الأكثر أهمية لهم، وبالتالي يكونون أقدر على "رفض السلوك غير الأخلاقي" والالتزام "بقواعدهم الأخلاقية". وفي حال تحقق الإنسان من افتراضاته فقد يصبح تقييمه لذاته وللآخرين أخلاقياً بدرجة أكبر. باختصار، سيكون من الأفضل أن يفكر الناس قبل اتخاذ القرار.

وهذه هي النصيحة التي يقدمها بازرمان لهم. كما يقدم حلولاً أوسع لتفادي التواطؤ لجمهوره المقصود؛ أي: القادة. وهو محق في التشديد على التواطؤ وإدارته في السياقات المؤسسية والتنظيمية، لكنه يضيف أن القادة "لديهم واجب أخلاقي كبير"، إذ "لديهم فرص كبيرة للتأثير على أخلاقيات الآخرين على نحو إيجابي". وتستوقفنا هذه الجملة بالذات، فلا يوجد سبب واضح يدفعنا للاعتقاد بأن أصحاب المناصب القيادية سيكون لديهم فهم عميق بالأخلاق ولا يوجد حتى دليل ضعيف على ذلك، لا سيما في القطاعات التي يشكل الربح دافعها الرئيس. كما يجب أن ننظر بعين الريبة إلى التصريحات الأخلاقية للقادة كما يُبين العديد من أمثلة بازرمان.

وما يدعو للقلق أن بازرمان يوصي القادة باتباع استراتيجيتين على الأقل لاستغلال هذه "الفرص" الأخلاقية. ويقول إن على القادة "تمكين العمل الجماعي" و"إنشاء آليات تشجع الأفراد في المؤسسة على التكاتف معاً لوقف العمل غير الأخلاقي". وأن على القادة "كسر الحواجز" في مناقشات تقييم الموظفين مثلاً، حتى يتشجع المجتمعون "للتعبير عن قلقهم" من تصرفات زملائهم. وفي المناخ السائد من النقد والتشهير العلني والإيقاع بالآخرين، وبالنظر إلى سلطة القادة وتأثيرهم، يعرّض القادة أنفسهم لمخاطر أخلاقية رهيبة بادعاء مكانة ذات سلطة أخلاقية لا مسوّغ لها.

يسيء الناس التصرف، ومن الأفضل ألا يفعلوا. لكن الطريق لتحقيق ذلك هو التعامل مع الأخلاق بالجدية التي تستحقها وبتثقيف الناس ومكافأتهم على العمل الجاد المتمثل في التفكير والتغيير. ويعتقد بازرمان أن "الناس يرفضون الحجج الفلسفية الخاصة بالأخلاق لأن الالتزام بها يتطلب تقديم تضحيات كبيرة" مثله مثل الكثير من المختصين في مجال أخلاقيات العمل. وأوافقه الرأي بأن تطبيق أي نظرية أخلاقية مطلقة سيكون صعباً على البشر العاديين، فالكذب أحياناً يكون التصرف الأخلاقي السليم. وأحياناً أخرى الغاية لا تبرر الوسيلة.

ولكن يمكن للنظريات والمبادئ الأخلاقية أن تنير دربنا. وبصفتي أستاذة للفلسفة الأخلاقية، سأكون أول من يعترف بأن تعلمها والتفكير فيها واستخدامها كمُثل عليا تنظم حياتنا ليس بالأمر السهل. لكنها تستحق المحاولة، ويبدو أن أحد طلابي كان محقاً عندما أدرك أنه غير مضطر إلى بذل أي مجهود فيها للنجاح في عالم الأعمال.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي