تناول الآراء الناقدة للرفاه في قطاع التنمية المجتمعية

الرفاه الاجتماعي والرفاه الداخلي
الصورة: هيلينا بيلاريس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كَشفت قصص سابقة في سلسلة من المقالات، عن الرابط بين الرفاه الداخلي والتغيير الاجتماعي، والطرق المختلفة التي تتيح للعامِلين في قطاع التغيير الاجتماعي إجراء عملية البحث عن الذات، وكيف يمكن لمؤسسات التمويل أن تدعم رفاه المستفيدين، لكن على الرغم من الإدراك المتزايد لتأثير الرفاه الإيجابي على الأفراد والمؤسسات والمجتمع، فهو لا يحظى بدعم الجميع؛ إذ يعتبر الكثيرون أن دعم الرفاه من الكماليات، أو أنه على الأقل ليس حاجة ملحّة، أو ليس أساسياً في عملية التغيير الاجتماعي.

أعلم ذلك لأني حاولت على مدى الأعوام القليلة الماضية أن أُدرِج الرفاه ضمن جدول أعمال القطاع الاجتماعي في ألمانيا، وأُنشِئ مبادرات تتناول احتياجات مجتمعنا للرفاه، لكن كان ذلك صعباً على الرغم من شبكة علاقاتي الكبيرة وخبرتي الواسعة في هذا المجال؛ إذ أسستُ أكبر منصة تمويل جماعي للمشاريع الاجتماعية في ألمانيا ومؤسسة فكرية تبحث في تسخير التكنولوجيا الرقمية للمصلحة العامة. لطالما قابلني الممولون والمدراء التنفيذيون الذين ناقشتهم بالمعارضة والمراوغة، وواجهت طيفاً واسعاً من الانتقادات بخصوص شرعية التوجُّه نحو الرفاه وفعاليته.

واجه العديد من روّاد مبادرات الرفاه الآخرين التحديات ذاتها على مر السنين، لكنني حظِيت وإياهم ببعض التجارب الناجحة أيضاً؛ إذ استخلصت من عملي أنه يمكن التغلب على التشكيك والحصول على الدعم من خلال مساعدة المتبرعين والمؤيِدين المحتمَلين على فهم ماهيّة الرفاه وسبب أهميته على نحو أعمق وواقعي أكثر.

معرفة ما عليك مشاركته وطرق طرحه في هذه المناقشات هي فن بحدّ ذاتها؛ إذ لاحظت في معظم الأحيان أنه من الضروري مشاركة أمر شخصي عن نفسي إلى جانب الحجج المعرفية. في البداية بدا الإفصاح مخيفاً، لكن مع مرور الوقت وجدت متعة في لقاء أشخاص آخرين في اجتماعات تحمل طابعاً إنسانياً أكثر. مشاركة الأمور الشخصية ليست أمراً مألوفاً بطبيعة الحال، فهو يثير الارتباك أو يولّد شعوراً بالإحراج من المنحى الذي تسير فيه النقاشات، لذلك تعلَّمت أن أضبط مقدار ما أبوح به وفقاً لدرجة ارتياح الشخص الآخر في الحوار. وحالما ينشأ رابط شخصي بدرجة أكبر نتمكن من اكتشاف التجارب المشابهة التي خاضها كل منا، ما يؤدي إلى تعزيز الترابط والتفاهم بيننا.

تعكس الحوارات أدناه 5 من أكثر الانتقادات التي واجهتها شيوعاً، وكيف ناقشت هذه الهواجس بكل احترام. ومع أننا تطرقنا لبعض هذه الفقرات في مقالات سابقة، لكن الهدف من ذكرها هنا، هو طرح بعض القضايا الشائكة التي يتجنب الجميع الخوض فيها مباشرة. آمل أن تساعد وجهات النظر هذه قادة المؤسسات غير الربحية على مناصرة تبني أساليب الرفاه في مؤسساتهم أكثر، وتحقيق نجاح أكبر في إشراك الجهات الممولة في دعم هذه الأساليب.

هل يعني الرفاه الداخلي جلسات العلاج في المنتجعات الصحية؟

اعتمدت عدة مؤسسات وسياسات مصطلح الرفاه في السنوات الأخيرة، لكن الرفاه في إطار التغيير الاجتماعي لا يعني جلسات العلاج في المنتجعات الصحية أو الجلوس في مكان هادئ على ضوء الشموع، بل يتمثل كما عرّفه مشروع الرفاه (The Wellbeing Project) في الإحساس بالاكتمال والارتباط اللذان يشملان النمو الشخصي والتعافي وتكامل الذات. يمكن أن تتضمن الممارسات التي تدعم رفاه الفرد الداخلي التأمل أو إمضاء مزيد من الوقت مع العائلة أو كتابة اليوميات أو الاستعانة بطبيب نفسي. هذه الممارسات هي وسائل للحصول على صحة نفسية جيدة، والرضا عن الحياة بدرجة أكبر وتعزيز الإحساس بوجود هدف منها، والقدرة على التحكم بالتوتر.

يتطلب تحقيق الرفاه عادة التزاماً وجهداً كبيرَين؛ من الممكن مثلاً أن يرى الآخرون أني امرأة واثِقة من نفسها، لكن ذلك يناقض حقيقة معاناتي طوال حياتي من الوسواس المرضي وغيره من الاضطرابات. تعلّمت لاحقاً ألّا أبذل اجهداً كبيراً في إخفاء نقاط ضعفي، وأن أتعامل مع الآخرين بصدق وراحة أكبر عن طريق ممارسة التأمُّل بانتظام والتعاون مع مدرب مختص في الوعي الذاتي للتركيز على جسمي وحواسي.

هذا التوجُّه نحو الرفاه هو جزء من تحوُّل أكبر في طريقة قياسنا للتنمية والتقدم الإنساني والانتقال من المؤشرات الاقتصادية البحتة إلى المؤشرات التي تركز على الإنسان بدرجة أكبر. قدّمت الأمم المتحدة في عام 1990 مؤشر التنمية البشرية (Human Development Index) الذي يقيس التنمية الشاملة للأفراد بدلاً من قياس التنمية الاقتصادية فقط ويركز على 3 أبعاد: متوسط العمر والمعرفة ومستوى المعيشة. تعمل دول مثل آيسلندا واسكوتلندا وفنلندا حالياً على تقديم الصحة النفسية على الناتج المحلي الإجمالي بصورة رسمية، وتضع السياسات والميزانيات بناءً على أولويات الرفاه، كما وضعت نيوزيلندا في عام 2019 ميزانية لمعالجة الأمراض النفسية والعنف الأسري والفقر بين الأطفال.

طلبُك للمساعدة يدُلّ على ضعفك

يتطلَّب إدراكُنا لنقاط ضعفنا وطلب المساعدة شجاعة وقوة، فلا أحد يحب الإحساس بالضعف. لكن الإقرار بكامل ذاتنا وليس النواحي التي نظن أنها متألقة فقط، يعدنا للتواصل مع الآخرين على المستوى الإنساني ويمهّد السبل لاحقاً للتعاون وحل المشكلات.

ألزمتُ نفسي بالعيش وفق هذا الأسلوب لسنوات عدة، واستغرقت عدة سنوات في التعرف على ذاتي والاعتراف بنقاط ضعفي بصورة كاملة -مشاعر القلق والاكتئاب والشعور بالوحدة- وإدراك الثمن الذي كنت أدفعه في سبيل إخفائها. عرفت أن عدم التعبير عن نفسي والامتناع عن مشاركة ما أشعر به ومحاولة إظهار نفسي على أني مثالية، في حين كنت أصارع ذاتي، يعني أني لا أعيش حياة نزيهة. وتعلمت أن أواجه الجوانب المظلمة من نفسي، وكانت هذه العملية مؤلمة غالباً لأنها تضمنت تقبُّل جميع جوانب نفسي والتصالُح معها.

وجد العديد من المشارِكين في مشروع الرفاه أن تحديد نقاط الضعف وطلب المساعدة، جعلهم يشعرون بأنهم أكثر حيوية وقدرة على خدمة الآخرين، لأسباب منها أن مواجهة إنسانيتنا تزيد من تعاطفنا مع صراعات الآخرين؛ وذلك عنصر حاسم في تنحّينا عن مقام المنقِذ أو المساعِد كي نتساوى مع الآخرين ونخدمهم ونؤثر بهم. قال أحد المشاركين: “يتمتع عملي وفريقي بميزة مختلفة، لأني أعبر عن نفسي بوضوح وأظهر حساسيتي، ولا أتظاهر بأني بطل خارق يمكنه معالجة أي مشكلة، بل أعترف بجهلي وحاجتي وضعفي، وهذا يمنح فريقي ميزة مختلفة، ويشجع الموظفين الآخرين على إظهار نقاط ضعفهم أيضاً”.

الأشخاص الذين تعمل المؤسسات غير الربحية لأجلهم يستحقون الأولوية

في ظل مواجهتنا مشكلات جسيمة، كافتقار 2.5 مليار شخص إلى المرافق الصحية الملائمة، أو فرار 37 ألف شخص يومياً من ديارهم هرباً من الاضطهاد أو الصراعات القائمة فيها، يمكن أن تبدو رفاهية العاملين في قطاع التغيير الاجتماعي أمراً لطيفاً وليس أساسياً.

قد يبدو بديهياً أن يشغلنا اهتمامنا بأنفسنا عن العمل على قضية نحن شغوفون بها أو عن مجتمع نعمل لأجله، لكن التغاضي عن موضوع الرفاه يُلحق ضرراً كبيراً بالعاملين في قطاع التغيير الاجتماعي؛ فكثير منهم يعمل انطلاقاً من حافز داخلي كبير ولكنهم يعانون حاجات ملحة ونقصاً في الموارد. كشفت الدراسات عن معاناة قطاع التغيير الاجتماعي ومقدمي الرعاية معدلات مرتفعة من الاحتراق الوظيفي متمثلاً في الإرهاق العاطفي أو آليات تأقلم غير صحية.

التقى معظم العاملين في قطاع التغيير الاجتماعي بأشخاص ممن تمثلهم تلك الإحصائيات، وصادفت العديد منهم بنفسي: كانت لدي زميلة تبدي حماساً شديداً تجاه هذا العمل لكنها لم تعد قادرة على تحمُّل ضغط وظيفتها الشاقّة فاضطرت إلى الاستقالة في النهاية، وأصيب الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات غير الربحية التي كنت أدعمها بصفتي عضواً في مجلس إدارتها بالإنهاك التام مرتين، وأعرف عدداً من المتطوعين الملتزمين الذين أمضَوا حياتهم في مكافحة الإقصاء الاجتماعي، ويعيشون الآن تحت وطأة الفقر. في النهاية؛ دعم الرفاه ليس اختياراً بين أمرين، بل تقديمه واجب للعاملين في قطاع التغيير الاجتماعي والناس الذين يعملون من أجلهم على حد سواء.

الرفاه لا يرتبط بالتغيير الاجتماعي بشكل مباشر

يوجد بحث يبيِّن أن زيادة رفاه الذين يعملون من أجل تحقيق التغيير الاجتماعي، يمكن أن تؤدي إلى تغييرات جذرية وحتمية في طريقة حدوث هذا التغيير؛ فعندما يكون الأشخاص بصحة أفضل من الداخل، تزداد قدرتهم على الثقة بالآخرين، واستعدادهم لتقبُّل أفكار جديدة.

واجهت مؤسسات التغيير الاجتماعي القائمة على التكنولوجيا التي أديرها منذ 20 عاماً تعقيدات جديدة في الانتقال من العصر الصناعي للدول القومية، إلى عصر العولمة الرقمي الذي نعيش فيه الآن. أفسحت التراتبيات المركزية المجال للشبكات اللامركزية، وزعزعت نماذج الأعمال ومفاهيم العمل الجديدة سلاسل القيم القديمة، كما دارت مفاوضات متعمقة حول مفاهيم الحرية والخصوصية. احتاجَ من يعمل منا على تغيير تلك الأنظمة ومن يعمل ضمنها إلى تطوير قدرات ذاتية جديدة؛ مثلما تتفكك المؤسسات التقليدية تتفكك مؤشرات الطمأنينة والاتجاه لدينا. بيد أنه يجب علينا تحقيق التوازن داخلنا وضمن علاقاتنا، أي أن نعرف أنفسنا أكثر ونتواصل بشفافية ونفهم وجهات النظر المختلفة ونجسدها.

يلعب الرفاه الداخلي دوراً حاسماً في قدرتنا على الازدهار في هذا العالم المتسارع وتحقيق التناغم في هذا النوع من الجهود المعقّدة الضرورية من أجل التصدي للتحديات التي نواجهها.

الرفاه هو العمل على تحسين الذات وبذل جهد أكبر في العمل

شهدنا في العقود القليلة الماضية استغلالاً مادياً هائلاً لسُبُل تحقيق الرفاه، وفي نفس الوقت تبنَّت الشركات والأفراد مبادرات الرفاه على اعتبارها وسيلة لزيادة رضا الموظف و إنتاجيته. ولكن في بعض الحالات يبدو أن التركيز على الرفاه يصرف النظر عن العوامل الخارجية التي توقع أثراً كبيراً على الرفاه، مثل الأجور والإنصاف، ولذلك يؤمن بعض النقّاد أن مبادرات الرفاه “تلوم” الأفراد على تعاستهم ومعاناتهم، بدلاً من إدراك أن هذه المعاناة ناتجة عن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الاستغلالية.

مع ذلك لا تعني محاولة بعض المؤسسات استغلال الرفاه لتحسين أرباحها أنه عديم القيمة، فقطاع الخدمة الاجتماعية يعاني في الواقع ضعفاً مزمناً في الاستثمار في بناء القدرات، لا سيما إذا قارناه بعالم الشركات. مثلاً، تمكّنت المؤسسات غير الربحية الأميركية من إعادة استثمار 0.03% فقط من نفقاتها السنوية في تنمية المهارات القيادية، بينما تحقق الشركات التجارية نسبة أعلى بأربعة أضعاف.

لن يغير تنفيذ سياسات الرفاه بيئة العمل الحالية للفرد أو لمؤسسته فحسب، بل سيغير الواقع الأكبر المحيط به أيضاً، ولذلك من الضروري معالجة الأنظمة الأوسع التي نعيش فيها. وحين كنت رائدة اجتماعية شابة كنت أَعي تماماً اختلال موازين القوى بين الجهات الممولة والجهات المستفيدة، ولم أكن أجرؤ على التحدث علناً عن الاحتياجات الإنسانية في مؤسستي، مثل الرواتب الأعلى أو التمويل المؤسسي أو التدريب المهني، إذ لم أرغب في أن أبدو ضعيفة أو متطلِبة، لكن كيف سيعلم الممولون ما تحتاج إليه المؤسسة إذا لم أخبرهم بذلك؟ عندما تمكنت أخيراً من مشاركة احتياجات مؤسستي بصدق، بدأت الأمور تتغير، إذ فهمت الجهات الممولة هذه الهواجس، وأدركت أنها في الكثير من الأوقات كانت ببساطة غير مدركة لواقعي.

لذة النجاح

يسعدني القول إن امتلاك الجرأة للتحدّث عن هذه المواضيع علناً والتواصل مع الداعمين المحتَملين على الصعيدَين الفكري والشخصي بدأ يؤتي ثماره؛ فبعد عامين من المحاولات، حصلَت مؤسستي، بيتر بليس لاب (betterplace lab)، على تمويل كبير لبرنامج دعم الرفاه. وسوف يساعد هذا التمويل الذي قدمته مجموعة جهات ممولة تشمل مؤسسة ألمانية وشركات تأمين صحي ومؤسسة خيرية أميركية، في تعريف مؤسسات التغيير الاجتماعي إلى مفهوم الرفاه من خلال سلسلة من ورشات العمل والتدريب.

يدفعني ذلك للتفاؤل مع بعض الحذر بأن قطاعنا بدأ يدرك أهمية الرفاه، لكن التغيير على نطاق واسع يحتاج إلى الصبر، إذ يستغرق انفتاح الناس على المواضيع الجديدة بعض الوقت، ريثما يثقون بأنها حقيقية وذات قيمة. يجب ألّا ننسى أن غالبية أنظمة قطاع الخدمة الاجتماعية ومؤسساته لا ترى أهمية أساسية للرفاه في عملياتها، ولا تجرؤ المؤسسات غالباً على تغيير طريقة تفكيرها أو إنشاء هيكليات تمويلية جديدة إلا عندما ترى أن المؤسسات الممولة الأخرى تسير على هذه الخُطى ذاتها.

مع ذلك، فالمشاركة في نقاشات حول تعريف الرفاه وتوضيح قيمته هي جزء مهم من التمهيد لثقافة جديدة وصحية أكثر يزدهر فيها الأفراد والأنظمة من حولهم. قد تبدو هذه العملية محبطة في بعض الأحيان، لكني آمل أن تمنح الردود على الانتقادات الشائعة أعلاه المؤيدين نقطة انطلاق مفيدة.

 يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط،علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.