ماذا يعني إطلاق مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي الأولى في الشرق الأوسط؟

5 دقائق
العمل الخيري الاستراتيجي

أطلقت جامعة نيويورك أبوظبي تزامناً مع الذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها، مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي الأولى من نوعها في المنطقة، وجاءت بموجب اتفاقية أبرمتها الجامعة مع رائد الأعمال الاجتماعي بدر جعفر، فماذا يعني العمل الخيري الاستراتيجي؟ وما الذي يميزه عن العمل الخيري التقليدي؟

في الماضي، كانت الأعمال الخيرية التقليدية مدفوعة بمبادرات فردية نابعة عن الإحساس بالمسؤولية المدنية والدينية، وركزت في أغلب الأحيان على الطرق المعروفة للعطاء والقضايا الاجتماعية التي تؤثر في المجتمعات المحلية مثل الرعاية الصحية والفقر، دون المعالجة الجذرية لتلك القضايا.

من ناحية أخرى، نجاح المشاريع الخيرية وامتداد أثرها على نطاق واسع كان نتيجة العلاقات العامة للمؤسسات التي تميزها عن منافسيها، وتأثيرات الجهود الفردية وتحركات الجهات المانحة في مجال العمل الخيري كانت غير مركزة نحو جهة أو قضية معينة، ما يؤدي إلى خسارة فرص التغيير المستدام، لذا كان العمل الخيري بمثابة الطفل الذي أهمله النظام الرأسمالي، وكان موضع شك بسبب دوره الهامشي في المجتمع.

من هنا، ظهرت الحاجة إلى التغيير والتوجه نحو العمل الخيري الاستراتيجي الذي يعمل على إضفاء الطابع المؤسسي على الأعمال الخيرية، والاستناد إلى البيانات من أجل تطبيق معايير النزاهة والشفافية في والتوظيف الأمثل للتكنولوجيا للربط بين الجهات المانحة والمحتاجين، وبناء القدرات للاستثمار الأمثل للموارد المتاحة على المدى البعيد.

وتقوم منهجية العمل الخيري الاستراتيجي على التعاون والعمل الجماعي بين القطاعات والمجالات ذات الأولوية في تمويل وتنفيذ البرامج الخيرية من أجل الوصول لحلول مستدامة وعالية التأثير، فالعالم اليوم قائم على قوة تبادل المنافع، التي تساعد في ابتكار حلول عملية للقضايا المستجدة.

مفهوم العمل الخيري الاستراتيجي

يعد العمل الخيري الاستراتيجي نهجاً قائماً على إيجاد الحلول الجذرية للمشاكل والتحديات من خلال تبني الطرق والأدوات المبتكرة التي تحفز على التغيير، البعض يسميه رأس المال المُهدّد لأنه قائم على استثمار الأموال في دعم أفكار جديدة لم تُختبر سابقاً لمعرفة مدى كفاءتها، ويرتكز العمل الخيري الاستراتيجي على ثلاثة معايير:

  1. المعرفة: العمل القائم على المعلومات يضمن سيره بالاتجاه الصحيح، ويصبح إنجاز المهام مبنياً على أسس سليمة من البيانات والتحليلات الدقيقة والاستشارات المقدمة من روّاد العطاء والخبراء وأصحاب المصلحة.
  2. الشراكات: إن بناء شبكة قوية من العلاقات الخارجية وإيجاد منصة موحدة تجمع أصحاب المصلحة وتشجعهم على تقاسم الخبرات والتجارب، يساعد مؤسسات العمل الخيري في الوصول السريع إلى الحلول الفعّالة، دون إغفال الشراكة مع الحكومات خصوصاً التي تعمل على إضافة قيمة جديدة للعطاء وتقدم كافة أنواع الدعم للمشاريع الاجتماعية.
  3. التقييم وقياس الأثر: لا جدوى من أي عمل دون قياس أثره، لذا لا يمكن اتخاذ خطوة في العمل الخيري دون تخطيط مسبق منعاً لهدر الموارد المادية والبشرية وتكرار الأخطاء، ويجب التحلي بالالتزام والانضباط، واعتماد منهج واضح ومحدد لقياس المعرفة والأثر الفعلي للبرامج والمبادرات الاجتماعية ما يساعد في إيجاد حلول جديدة وفعاّلة على المدى البعيد.

ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن اعتماد النهج الاستراتيجي في العمل الخيري لن يبعد المؤسسات الخيرية عن واجهة التحديات والمعوقات، لكنه سيساعد في تحديد المشاكل والمخاطر وتحييدها من خلال استشراف المستقبل، لذا يقوم هذا النهج على حقيقة أن الحلول ليست فورية، وإنما تتطلب سنوات من العمل أو حتى أجيال بأكملها.

واستناداً لهذه المعطيات الحيوية حول العمل الخيري الاستراتيجي، يمكن القول إن غياب هذا النهج عن عمل بعض المؤسسات الخيرية يؤثر في وضوح رسالتها، ويجعلها تفقد بوصلتها وتتداخل أهدافها مع مؤسسات مماثلة فتقدم أعمالاً مكررة دون تحقيق فائدة ملموسة للمجتمعات، الأمر الذي قد يؤدي إلى فقدان المؤسسات لثقة المانحين الأفراد، وبالتالي فقدان الحماس على الاستمرار بالعطاء.

أهمية العمل الخيري الاستراتيجي في الشرق الأوسط

يزخر مجال العمل الخيري في المنطقة بالفرص المستقبلية الواعدة، ومن المتوقع أن تكون المنطقة مصدراً لنمو القطاع خلال العقدين المقبلين، لكنه يواجه تحديات صعبة تعرقل تغيير مساره، إذ تفتقر بيئة العطاء الاجتماعي في المنطقة إلى الثقة بين الجهات المانحة والمؤسسات الخيرية، ما دفع الجهات المانحة إلى تولي تنفيذ برامجها الاجتماعية بنفسها، وبحسب دراسة أعدتها مبادرة بيرل بعنوان: حالة الحوكمة في قطاع العطاء الاجتماعي - منطقة الخليج عام 2018، فإن غالبية المؤسسات الخيرية تكتفي بالحصول على رأي وملاحظات الأطراف المعنية الداخلية فقط، وأفاد 91% من المؤسسات الخمسين المشاركة في الدراسة ذاتها بالتزامهم بإجراءات تقييم الأنشطة والبرامج، ومع ذلك، تتطلع الجهات المانحة والمنفذة إلى تحسين عملية تقييم الأثر.

ومن جهة أخرى، يمكن أن تقتصر عوامل نجاح بعض المؤسسات الخيرية في المنطقة على قوة شخصية قيادتها وقربهم من دوائر صناعة القرار ووفرة الموارد المالية، دون أن تتبني هذه المؤسسات مبدأ التخطيط الاستراتيجي. أمام هذه التحديات ظهرت مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي لتعزيز قطاع العطاء وتطوير الممارسات الاستراتيجية لرفع مستوى كفاءة العمل الخيري في الإمارات ومنطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي

تهدف هذه المبادرة التي أطلقتها جامعة نيويورك أبوظبي لتحفيز المانحين على التعاون في العطاء من خلال تقديم نماذج جديدة للاستثمارات الخيرية والشراكات الفاعلة بين المؤسسات الخاصة والعامة وغير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة.

ويعد الاستثمار في الشباب فرصة للتغيير والتطوير، خصوصاً أنهم يشكلون نحو 60% من سكان المنطقة؛ لذا ستدعم المبادرة فئة الشباب وستزودهم بالأدوات والموارد والبنية التحتية اللازمة لتعزز قدراتهم في تحقيق أهداف التنمية، وستنظم مسابقة للطلاب في مجال العمل الخيري من أجل تحفيزهم على الأفكار المبتكرة  لخدمة المجتمعات في المنطقة والعالم.

وتعزيزاً للجانب الأكاديمي والمعرفي للعطاء وتوسيع انتشاره على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ستعقد جامعة نيويورك أبوظبي شراكات مع عدد من المراكز المختصة بدراسة العمل الخيري، بهدف جمع البيانات الموثوقة وتسهيل الحصول عليها وإجراء الأبحاث وإصدار التقارير ونشر مقالات مدروسة.

وستشمل  المبادرة أيضاً تنظيم مؤتمرات تجمع المانحين وقادة الأعمال وواضعي السياسات لمناقشة واقع العمل الخيري وسبل تطويره وزيادة رؤوس الأموال المكرسة لخدمة المنطقة، ما يساعد في تقييم أداء المؤسسات الخيرية على أوسع نطاق وقياس أثر البرامج والمشاريع الاجتماعية للتوصل إلى أفضل النتائج الممكنة.

وتتطلع المبادرة من خلال البحث والاجتماعات والتدريب إلى مواكبة التوجه الجديد لمجتمع الأعمال في العالم، بما فيه منطقة الخليج، نحو إعادة تقييم دوره في منظومة العطاء وتحقيق الأثر الإيجابي في مجال القضايا الاجتماعية والبيئية.

اهتمام رائد الأعمال بدر جعفر بالعمل الخيري الاستراتيجي والتعاون مع المؤسسات التعليمية في هذا المجال لا يقتصر على هذه المبادرة وحسب، بل أسس عام 2020 المركز الاستراتيجي للأعمال الخيرية في كلية جادج للأعمال (Judge Business School) بجامعة كامبردج (University of Cambridge) في لندن؛ بهدف قياس تأثير الأعمال الخيرية الاستراتيجية وتعزيز أثرها في المناطق الأسرع نمواً في العالم، بما فيها الشرق الأوسط وإفريقيا ودول آسيا النامية، وذلك من خلال منهجية قائمة على البحوث المكثفة والموثوقة، والتدريب، وجمع مختلف الأطراف المعنية.

ويعمل المركز مؤخراً على برنامج العمل الخيري الاستراتيجي في الأسواق الناشئة: تعظيم الأثر، والذي يتضمن محاضرات فيديو، ومناقشات، وجلسات تعليمية مباشرة عبر الإنترنت، لاستكشاف كيفية توظيف رأس المال الخيري على أفضل وجه، وبحث التحديات والفرص التي تواجه المانحين ورواد العطاء في الأسواق الناشئة في محاولة مواءمة عملهم مع خطط التنمية الوطنية، وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.

وجاء إطلاق المركز في ظل الموجة الرابعة من العولمة، التي انتقل خلالها مركز الثقل الاقتصادي نحو الجنوب والشرق، ففي عام 2019، ضمت الأسواق الناشئة الاقتصادات الثلاثين الأسرع نمواً في العالم، ويمكن أن تشهد منطقة الشرق الأوسط زيادة نشاط العمل الخيري مع توقعات بانتقال عالمي لثروات قدرها 15مليار دولار إلى جيل الأبناء.

وتتمتع المنطقة بإرث مهم في مجال العطاء، ومن هنا أطلق بدر جعفر عام 2020 مبادرة باسم حسنة، وهي منصة دولية غير ربحية تعمل على تسهيل عملية العطاء الإسلامي من خلال الربط بين المتبرعين والمشاريع الخيرية من جميع أنحاء العالم، مع التأكد من شفافية ونزاهة الجهات المانحة.

وفي عام 2017، عقدت شركة الهلال للمشاريع التي يديرها بدر جعفر، اتفاقية شراكة مع مركز الشارقة لريادة الأعمال، شراع، لإطلاق مبادرات وبرامج  لتطوير ودعم مشاريع الأعمال المستدامة التي تحقق أثراً اجتماعياً في المنطقة، منها برامج لابتكار الأفكار المتميزة، تستمر لأسبوعين يمكن من خلالها أن يختبر رواد الأعمال أفكارهم ودراسة جدواها وقياس مدى فاعليتها من أجل تطوير مشاريعهم وتحسينها والتأكد من تحقيقها للأثر الاجتماعي المطلوب.

ختاماً، "لا تخف من التخلي عن الجيد من أجل الحصول على الأفضل"، هذه نصيحة مهمة يقدمها رائد الأعمال الاجتماعي الأميركي جون روكفلر (John Davison Rockefeller) للمؤسسات غير الربحية من أجل التخلي عن الحلول المؤقتة وطرق النجاح المقبولة، والانتقال إلى منهجية العمل الخيري الاستراتيجي والبحث عن سبل جديدة لزيادة فاعلية العطاء.

المحتوى محمي