قوة التجديد الذاتي: استمرارية التأثير القيادي

8 دقائق
التجديد الذاتي

في حال مارست القيادة بروح التجديد الذاتي، فستجدها مورداً لا ينضب. وغالباً ما يتطلب ذلك منا التحرر من الأعمال المرتبطين بها لنراها بنظرة موضوعية ولكي نلقي الشك في منهجية عملنا وننفتح على التغيير واغتنام الفرص التي تتطلب منا بدورها إعادة اكتشاف ذاتنا.

طوال مسيرتي المهنية التي امتدت على مدار 35 عاماً كطبيب بصريات ورائد أعمال اجتماعي، مارست التجديد الذاتي المستمر سعياً وراء عالم يكون فيه الحصول على النظارات ممكناً للجميع، وخاصة في المجتمعات الفقيرة والنائية. قد تكون عملية التجديد الذاتي مقلقة ومحفوفة بالمخاطر، لكن التمسك بها ضروري لكي يضمن القادة تحقيق أقصى تأثير ممكن. وتجسد كلمات جون أودونوهيو في قصيدته "لبداية جديدة" (For A New Beginning) جوهر التجديد الذاتي. حيث تبدأ القصيدة بالتأمل الذاتي العميق والإصغاء إلى الحوار الداخلي مع النفس. ثم تشير القصيدة إلى أن المسار قد يحتاج إلى تغيير من أجل تحقيق أقصى قدر من التأثير، وغالباً ما يدل ذلك إلى "حقيقة مزعجة" لأنها تزعزع الاستقرار الحالي. "وحين توقدت شجاعتك عرفت البهجة / ووطئت أرضاً جديدة / عيناك شابتان من جديد في حلم وحيوية / ويمتد طريق الغلال أمامك".

وفي اللحظات المفصلية للتجديد الذاتي في حياتي، بما في ذلك تأسيس وتوسيع نطاق عمل مؤسسات مثل فيجين سبرينغ (VisionSpring) وآي ألاينس (EYElliance)، أعدت التفكير والتقييم في أين وكيف تمكنت من المساعدة، ومتى تملكني إحساس حقيقي بوجود غاية من حياتي. وتعلمت أنني أستطيع تجديد ذاتي وعملي عبر طرح الأسئلة مراراً وتكراراً دون ملل وبطرق مختلفة مثل، ما المجالات التي أبرع بها وأتميز؟

ستلقي هذه الأسئلة السبعة الضوء على الاستغلال الأمثل لمقدراتك لتجاوز المنعطفات الحرجة في مسيرتك القيادية.

السؤال الأول: ما الغاية التي أعيش من أجلها في الحياة؟

عندما كنت في الثالثة والعشرين من عمري مررت بلحظة فارقة. وقفت حينها على قمة سلسلة جبال بروكس في شمال ألاسكا وحدثت معي ظاهرة يعرفها متسلقو الجبال جيداً، لقد تلاشى غروري وشعرت أني اللاشيء وأهم شيء في آن واحد. وقررت في تلك اللحظة أن العيش في سبيل هدف يتجاوز حدود ذاتي ويكون محوراً لحياتي.

وحينها لم يكن لدي أدنى فكرة كيف.

وذلك لأني سألت نفسي هذا السؤال على حين غرة. لكن في حال سأل الجميع أنفسهم عن غايتهم بإصرار، سيتمكن الكثيرون من العثور على غاية شخصية واضحة ومن ثم تكريس حياتهم لعمل ذي أثر.

وبعد 6 أشهر، كنت أمارس عملي في شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك مع مؤسسة خدمات البصريات التطوعية للإنسانية (VOSH) لتقديم خدمات البصريات للمحرومين. وجدت نفسي حينها في مواجهة صبي ضعيف البصر يبلغ من العمر 7 سنوات. ألبسته نظارة ممتازة. وبعد أن كانت الرؤية لديه شبه معدومة، أصبح يرى، تلك اللحظة غيرت حياته وحياتي، كلانا أصبح يرى، أدركت أن حياتي ستعني شيئاً يتجاوز حدود ذاتي في حال استطعت تكرار هذه التجربة مع الكثيرين. وأوقدت تلك اللحظة في قلبي شعلة حماس لم تنطفئ بعد.

يعيش أكثر من مليار شخص حول العالم مع ضعف البصر أو العمى ولا يمكنهم الحصول على نظارات طبية. إنها الإعاقة الأكثر انتشاراً في العالم. عندما تختار العمل من أجل تغيير إيجابي ودائم في مجال احتياج كبير جداً، سيتطلب ذلك جهداً متسقاً واستراتيجياً على مدار حياتك. ويجب أن يحيي هذا العمل قلبك، لأن القلب هو الدافع للعمل المستمر على المدى الطويل.

السؤال الثاني: ما أفضل طريقة لإحداث التأثير الذي أسعى في سبيله؟

قادتني تجربة مهمة بعد عامين إلى التساؤل عن نوع التأثير الذي أطمح إليه.

وصل فريقي العامل في (VOSH) إلى كويبدو في كولومبيا ومعه 5,000 نظارة من المتبرعين وكمية جيدة من الأدوية. وهناك قابلت امرأة ضعيفة البصر من قبائل التشوكو تبلغ من العمر 42 عاماً. نظارة ممتازة أخرى حلت مشكلة أخرى. وبعد استعادة بصرها في لحظات لا تنسى عادت إلى منزلها. لكنهم نبذوها في قريتها لأنها كانت تبدو "مضحكة للغاية". فعادت بعد أيام قليلة تطلب استبدال النظارة. ولسوء الحظ كانت تلك النظارة الطبية الوحيدة المطابقة لحالة بصرها الصعبة، وكانت من طراز عين القطة من خمسينيات القرن الماضي ومزينة بأحجار الراين. وذهلنا عندما قررت إعادة النظارة. وعندها قلت لنفسي: ما الخطأ الكبير الذي اقترفناه حتى فضلت تلك المريضة العمى على البصر؟

لم أشعر بالارتياح في رحلتي الرابعة تلك. وبدأت أشكك في طريقة عمل المؤسسة التي قدمت لي العمل الذي أحلم به. كيف كنا نعمل لتمكين تلك المجتمعات لتستطيع الاعتماد على نفسها؟ هل من المنطق تقديم نظارات مستعملة من متبرعين؟ بدأت تلك الشكوك عندما رأيت تلك المرأة عائدة إلى منزلها من دون نظارة. أدركت أننا أستخففنا بكرامتها وبحقها في اختيار النظارة التي تطمح لها وتناسبها ثقافياً.

ثم بدأت بالتساؤل بطرق أخرى: في حال فرضنا رسوماً على النظارات، فهل يمكننا الاستفادة من قوة آلية تقييمات العملاء المتبعة في السوق؟ وفي حال كانت منتجاتنا وخدماتنا قيّمة وبأسعار مناسبة، فهل سينفق الناس أموالهم التي لم يجمعوها بسهولة؟

السعي لتحسين آلية التأثير عملية مستمرة. وقد تكشف الأفكار المهمة، لا سيما المستمدة من التواصل المباشر مع المعنيين بالأمر، عن أوجه القصور في طريقة عملك. فقد ساعدني الإصغاء إلى شكوكي المزعجة واحترام رغبات واحتياجات تلك المرأة على طرح الأسئلة وتغيير مسار عملي.

السؤال الثالث: ما الذي يمكنني تعلمه من الآخرين أو من طرق العمل الأخرى؟

بحثاً عن مسار أفضل للمضي قدماً، أمضيت 5-6 سنوات التالية في العمل في العديد من مشاريع الصحة العامة المتعلقة بالبصريات.

اكتشفت مستشفى أرافيند للعيون (Aravind Eye Hospital)، وهو أكبر مستشفى للعيون في العالم ومؤسسة اجتماعية مشهورة في الهند، حيث أمضيت ستة أشهر في التدريس والتعلم عن "الرأسمالية الرحيمة" من الدكتور فينكاتاسوامي (الدكتور V) وفريقه المذهل. ولم تفارقني الفكرة الرئيسية لهذه المؤسسة والتي تشير إلى إمكانية تسخير الممارسات والمبادئ التجارية لحل المشكلات الاجتماعية، وشاهدت كيف واءم الدكتور V هذه المفاهيم التي تبدو متعارضة في سبيل معالجة مرض الماء الأبيض.

ثم قضيت خمس سنوات كمدير لبرنامج العمى النهري في منظمة هيلين كيلر انترناشيونال (Helen Keller International (HKI))، وهي منظمة دولية غير حكومية تعمل على الوقاية من العمى في جميع أنحاء العالم. أحببت ذاك العمل، تعلمت منه كيف تؤسس شراكة مع المجتمعات المحلية لإيصال الأدوية المهمة للذين يعيشون حياة معدمة. من خلال عملي مع (HKI)، تم ترشيحي لعضوية اللجنة الاستشارية الفنية للبرنامج الإفريقي لمكافحة داء كلابية الذنب (عمى النهر) الذي مثّل شراكة ضخمة بين القطاعين العام والخاص بالتعاون مع جميع الجهات الفاعلة في هذا المجال، منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي والهيئات الحكومية الوطنية ومنظمات غير حكومية وشركات أدوية مثل ميرك (Merck) وغيرها.

وكانت الشراكة بين القطاعين العام والخاص والرأسمالية الرحيمة الأساس لانطلاق عملنا. وبدلاً من إضاعة الوقت، بدأت من حيث انتهى الآخرون واستغليت ذلك الوقت في تعلم خبراتهم التي اكتسبوها عبر العمل الجاد والتي سأستفيد منها في عملي.

السؤال الرابع: هل نتعامل مع الطبقة الصحيحة؟

وكان عملي كقائد يدور مراراً و تكراراً في ثلاث مراحل متتالية، شغف ملتهب ثم تعب وإرهاق ثم انعدام الرؤية. في إحدى لحظات انعدام الرؤية تلك، بدأت أسأل نفسي إن كانت استراتيجيتنا بحاجة إلى إعادة تركيز نحو تغييرات في طريقة العمل لكن مع مستوى أعلى.

وبعد تفكير عميق، أدركت أن استيائي ينبع من شعور قوي بالحاجة إلى طريقة أفضل نعالج بها المشكلات الصحية في جميع أنحاء إفريقيا. وعلى الرغم من تركيز عملنا على عمى النهر، كان من المستحيل تجاهل تفشي جائحة الإيدز وعودة ظهور الملاريا والسل. وكان 90% من أعضاء اللجنة الفنية الاستشارية أطباء. وشعرت حينها بأننا لن نتقدم في حال بقيت الحوارات محصورة بين الأطباء. كنا بحاجة إلى وضع القضايا الصحية على جداول أعمال الرؤساء ووزراء المالية الذين يمتلكون السلطة والقدرة على التمويل. لم أستطع النوم في تلك الليلة من فرط الحماس. ذرعت الغرفة ذهاباً وإياباً، وخرجت في اليوم التالي بما يشبه الخطة لمرحلة جديدة في حياتي.

بعد بضعة أشهر وجدت نفسي في مكتب رئيس مجلس العلاقات الخارجية ليزلي جيلب. أخبرته أن قضايا الصحة العالمية يجب أن تُعطى الأولوية لأنها ستفرض نفسها بشكل متزايد على جداول أعمال مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. استمع باهتمام ثم قال لي: "أثبت ذلك"، فأجبت: "وظفني وسأثبت ذلك"، فقبل. كنت أول عضو في مجلس العلاقات الخارجية (CFR) لشؤون الصحة.

لقد كانت خطوة رائعة أخرى في رحلة التجديد الذاتي. وكان من مزاياها الاحتكاك بنخبة السياسة الخارجية، وإتقان التحدث بأسلوب جديد، وفهم آلية عمل السلطة. قضيت السنوات الخمس التالية في إثبات أهمية الصحة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. ونشرنا تقريراً رسمياً يحدد سبب أهمية الصحة للمصلحة الذاتية الضيقة والمستنيرة، وأهميتها في منظور القيادة، كما يوضح توصيات سياسية محددة يمكن التصرف بناءً عليها.

السؤال الخامس: كيف يمكنني إدراج كل ما تعلمته في نهج جديد؟

على الرغم من إحراز تقدم وبدء حوار حقيقي واكتساب مناصرين مثل السفير ريتشارد هولبروك في هذا المسعى، شعرت مرة أخرى بشعلة الحماس في صدري وفقدت رغبتي في العمل القيادي عبر المكاتب.

كنت متلهفاً للعودة إلى العمل الميداني، ومسلحاً بالمهارات السياسية التي صُقلت في مجلس العلاقات الخارجية. شعرت بالثقة في أنني أستطيع الاستفادة من 15 عاماً من الخبرة لإنشاء مؤسسة جديدة لمعالجة عجز السوق الخيري الكبير في تقديم النظارات في جميع أنحاء العالم.

أدركت في هذه المرحلة رغبتي في أن يكون لجهدي تأثير مباشر على صحة ورفاهية الناس. أتذكر جيداً محادثة أجريتها مع مزارعة في وادي نهر ساناجا في وسط الكاميرون. قالت لي: "نحن بأمس الحاجة لفرصة، نريد أن نعتمد على أنفسنا، وفي حال أتيحت لنا الفرصة يمكننا تلبية احتياجاتنا الأساسية مثل تعليم ورعاية صحية أفضل لأطفالنا ".

عندها أدركت أن الرؤية هي فرصة بحد ذاتها. فهي تمكننا من التعلم والعمل. حيث يكسب معظم الناس رزقهم مستخدمين أعينهم وأيديهم، وفي وقت ما بعد سن الأربعين، يفقد الجميع قدرتهم على الرؤية عن قرب. حيث فقد العديد من مرضاي في أميركا اللاتينية والهند وظائفهم بسبب ضعف البصر. وعمت البطالة أو البطالة المقنعة عدد لا يحصى من القرى التي زرتها لاسيما بين النساء.

ثم خطرت لي فكرة، ماذا لو تم تدريب النساء على إنشاء أعمال تجارية صغيرة لبيع نظارات قراءة بسيطة لجيرانهن؟ وفي حال نجحت التجربة فيمكننا خلق مصادر رزق والحفاظ عليها من خلال هبة البصر. وفكرت ملياً مرة أخرى، وتجددت طاقتي مرة أخرى، وعزمت على تحويل فكرتي إلى واقع ملموس.

السؤال السادس: هل أنا أفضل من يقود في المرحلة القادمة؟

على مدى السنوات العشر التالية شعرت وكأنني أمتلك طاقة لا حدود لها، وأسست مؤسسة فيجين سبرينغ الاجتماعية مع فريق صغير. رسالة مؤسستنا هي ضمان الحصول على نظارات وعدسات طبية بكلفة معقولة في كل مكان. كنت في حالة تدفق ذهني. كنت أنام خمس ساعات فقط كل ليلة ولم أشعر بالتعب، وبدأ جني الثمار عند وصول عدد الأشخاص الذين خدمتهم المؤسسة إلى الملايين، حيث زاد سخاء المانحين، وانضم إلينا المزيد من المحترفين المخضرمين.

وبعد إنشاء المؤسسة وتوسيع نطاقها، شعرت بقلقي المعتاد. لم يكن ذلك بسبب نقص الشغف، أو خوفاً من مستقبل غير مشرق لمؤسستي. وللتغلب عليه هذه المرة كان علي أن أطرح على نفسي أصعب سؤال حينها: هل أنا القائد المناسب لمستقبل فيجين سبرينغ؟ هل تتناسب مهاراتي مع احتياجات المؤسسة؟

وبمجرد طرح السؤال كنت أعرف الإجابة. لكن كيف تنفصل عن الشيء الذي يحدد هويتك؟ عرفت أنه لكي أجدد نفسي، عليّ أن أصغي لصوتي الداخلي الأمين، حتى عندما يخبرني بأشياء لا أرغب في سماعها. بدأت أشعر بالانجراف نحو أسلوب عمل على مستوى الأنظمة لحل مشكلة الرؤية غير الواضحة. اعتقدت أن مساهمتي الفريدة يمكن أن تتحقق في هذا المجال.

السؤال السابع: ما الذي يمكنني تقديمه الآن ولم أستطع تقديمه في السابق؟

على مدى السنوات العديدة التالية تخليت ببطء عن زمام الأعمال اليومية في فيجين سبرينغ، والتي تزدهر اليوم تحت القيادة القديرة لإيلا جودوين. فيجين سبرينغ الآن على أعتاب الوصول لخدمة 10 ملايين عميل.

عندما انسحبت من فيجين سبرينغ، اندفعت إلى المشاركة في تأسيس مؤسسة آي ألاينس مع ليز سميث. تركز مؤسسة آي ألاينس على تنسيق عمل الأنظمة والاستراتيجيات العالمية والوطنية لإيصال النظارات وفوائدها الهائلة لمليار إنسان. جددت آي ألاينس إحساسي بالغاية العميقة التي أعيش من أجلها حيث مكنتني من تقديم جميع المهارات والشبكات والمعرفة الذاتية التي طورتها لمواجهة التحدي الذي واجهني أول مرة منذ 35 عاماً.

يرغب الجميع بحياة ذات هدف نسير إليه بخطوات مدروسة وحكيمة لكي تتوافق طريقتنا في العيش مع اهتماماتنا الخالصة. تعبر كلمات جون غاردنر عن ذلك بوضوح: "لن يسمح لحظوظه في الحياة أن تضع حدوداً لإمكانياته ذلك الذي عرف معنى التجديد الذاتي. علينا أن نسعى لتحقيق أهدافنا بشكل منهجي أو على الأقل بكل شغف حتى نهاية العمر". ومع ذلك، تقول الحقيقة أننا قد نتوق إلى معنى وأثر لحياتنا، وقد يكون التوق صادقاً، فإن لم ندرس خطواتنا لتحقيقهما، ولم نكرس أنفسنا لهما كما نكرس أنفسنا لأعمالنا، فسيأتي يوم ننظر فيه إلى الخلف نادمين على كل أمنية لم نعمل على تحقيقها. ولا ينبغي التقليل من أهمية دور الحظ والقدر والظروف، إلا أنني أعتقد أن الخيار الأفضل هو أن نرفع أنفسنا قدر الإمكان إلى مكانة تسمح لنا بالقضاء على دواعي الندم لكي لا ينمو ويكبر.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.