تقدم منصة "ستانفورد للابتكار الاجتماعي" الجزء الرابع من سلسلة "الاستماع العميق"، التي أوضحنا في أجزائها الثلاثة السابقة أهمية الإنصات لبناء العلاقات الضرورية من أجل التغيير الاجتماعي، واستعرضنا أدوات ومهارات لتحقيق استماع فعال، سنكمل الحديث عنها وعن قوة الاستماع في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
تساعد وجهتا النظر معاً على توطيد الفهم المشترك؛ فالشخص الداخلي يعرف المصطلحات المحلية ويمتلك معرفة بالثقافة السائدة، ما يساعد على بناء الثقة، في المقابل، يمكن للشخص الخارجي حث المتحدث على شرح الأشياء التي لم يقلها.
هناك مخاوف أخلاقية في كل حالات الاستماع العميق، لكنها توجد على نحو خاص عند وجود فرق كبير في السلطة بين المتحدث والمستمع، وخصوصاً عندما يعدّ المستمع المحادثة. وتبعاً لذلك، يجب أن يكون المستمع على دراية بمسؤوليته عن خلق بيئة ثقة يكون فيها المتحدث هشاً عاطفياً، كما يقول عالم النفس أليكس غيليسبي. ويمكن للمستمع تحقيق هذا الهدف عبر الحرص على امتلاك المتحدث نوعاً من التحكم بالمحادثة، وأن المستمع يعكس وجهة نظر المتحدث بصدق. ونستطيع تحقيق هذه الاحترازات عبر زيارة الناس في مناسبات عدة، وإعطائهم الوقت للتفكير بالمشكلات والتفكير فيما شاركوه سابقاً قبل الموافقة عليه.
الكشف عن سيناريوهات أعمق
تكمن قوة الاستماع العميق أيضاً في قدرته على الوصول إلى ما هو أبعد من شذرات المعلومات المريحة والسطحية التي يتم تقديمها غالباً كردود تلقائية على الأسئلة العامة. يمكن للاستماع العميق أن يكشف عن السيناريوهات المدفونة -حول المعرفة والتاريخ المؤسسي مثلاً- وهي ضرورية لفهم الأنظمة المعقدة؛ لأن هذه السيناريوهات هي ما تشكل الهويات وتنظمها.
إن فهم السرديات الأعمق للمجتمعات ذات التمثيل الضعيف خطوة مهمة في مواجهة التحديات التنظيمية المتعددة. فمثلاً، في سبيل إيجاد الحلول لانبعاثات الغازات الدفيئة المتزايدة، نحتاج إلى فهم منطق الأشخاص المشككين في التغير المناخي والرافضين له. عندما استمعت إلى مزارعي الألبان، تمكنت من كتابة قصة عن "الرجال مجهولي الملامح في الأزقة المظلمة" الباحثين عن عنزة شاردة ويستولون على التي يعتبرها المزارعون المشتبه به المعتاد. عبّر بعض هؤلاء المزارعين عن شعورهم بالغضب والإحباط بسبب افتقارهم إلى الوكالة وانعدام الثقة في السلطة العلمية. لقد فهموا تغير المناخ باعتباره أحدث عذر لإلقاء اللوم عليهم، حيث تم إلقاء اللوم عليهم في الماضي بسبب خلق مجموعة من الأمراض التي انتشرت في المجتمع، من التسبب في السرطان إلى انتشار مرض السل البقري.
الوقت عامل أساسي في عملية الاستماع العميق. عندما نصغي إلى شخص ما، غالباً ما يكون لدينا سؤال نبحث عن إجابته أو موضوع معين نريد جمع المزيد من المعلومات عنه. وبالرغم من أن المحادثات المتكررة على مر الوقت مع العديد من الأشخاص في المجتمع من المرجح أن تستخرج روايات أكثر ثراءً وصدقاً، فإن هذا العمل المكثف ليس عملياً دائماً. فبغض النظر عن الوقت المتاح لك، عليك أن تكون شفافاً مع الأشخاص الذين تتحدث معهم، وأن تطرح عليهم السؤال الأوسع الذي تسعى إلى الإجابة عليه، ثم امنحهم الفرصة لصياغة ردودهم.
ممارسة هذا النهج
من أجل أن يتمكن الاستماع العميق من إحداث تغيير منهجي، يحتاج الناس إلى تعلم كيفية ممارسة هذا النهج، فردياً وجماعياً. ووفقاً لكلوغر: "إن ما هو أساسي في عملية تدريب الأشخاص على كيفية الاستماع بعمق هو منحهم تجربة أن يتم الاستماع إليهم بعمق". إن التفكير في التجربة المتجسدة بالشعور بأنهم مسموعون والانغماس فيها يمكّن المستمع من فهم قوة الاستماع العميق على نحو فعال، وبالتالي يمكنه من ممارسته بنفسه.
يمكن إجراء تدريب الاستماع العميق في مجموعة من السياقات، بما في ذلك السياقات التي تقوم فيها مؤسسة غير ربحية أو شركة بتدريب فرقها لفهم عملائها أو زبائنها على نحو أفضل. بروكسيميتي ديزاين (Proximity Design)، هي شركة اجتماعية مقرها ميانمار تصمم منتجات لمساعدة المزارعين في الأرياف على زيادة دخلهم، وتعمل على تدريب هؤلاء المزارعين على تقنيات تتنوع من تنقية البذور إلى مضخات المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية. ولفهم احتياجات مزارعي الأرياف، يحضر فريق المبيعات برنامجاً تدريبياً مدته ثلاثة أسابيع يتضمن ممارسة الاستماع ولعب الأدوار. يركز البرنامج على مهارات الاستماع العميق مثل عكس الأفكار، والتمهل قبل الإجابة، وتعلم أن تكون مرتاحاً مع الآخرين الذين يشاركون مشاعرهم. تقول مؤسِّسة الشركة ديبي أونغ دين: "لقد أعدنا صياغة علاقتنا مع المزارعين الصغار من خلال معاملتهم على أنهم عملاء رياديون وأذكياء يريدون امتلاك حرية الاختيار والكرامة ويحتاجون إلى التركيز والاهتمام. إن أن يشعر الناس بأنهم مسموعون هو أمر مهم".
يمكن حتى لمقدار محدود من تدريب الاستماع العميق أن يُحدث فرقاً. لقد قمت بتدريب 200 شخص من مجتمعات متنوعة على الاستماع العميق لبضع ساعات في مهرجان "BBC Crossing Divides" في مانشستر بالمملكة المتحدة، في أوائل عام 2020. بعد التدريب، شعر 73% من المشاركين بمزيد من الثقة تجاه التحدث إلى الأشخاص الذين يختلفون معهم، وشعر 76% منهم بمزيد من التعاطف تجاه هؤلاء الأشخاص. ونظراً لأن معظم ممارسي الاستماع يدعون إلى نشر هذا التدريب مع الوقت حتى يتمكن المشاركون من التفكير والتمرن بين الجلسات، فقد قمت بإطالة مدة الدورة إلى ثلاثة أسابيع عندما قدمت تدريب الاستماع العميق الافتراضي للمقيمين في لبنان هذا العام. وقد لاحظ الميسرون الذين راقبوا المحادثات في غرفة الاجتماعات الفرعية تقدماً ملحوظاً. ففي الجلسة الأولى، كان المشاركون "يدلون بتعليقات"، و"يقاطعون"، و"يتجاهلون" الأساليب؛ ولكن بحلول الجلسة الأخيرة، كانوا أكثر حرصاً على إعادة صياغة الأفكار للمتحدث لتمييز ما إذا كانوا قد فهموها على نحو صحيح. كما أصبح المشاركون أكثر انفتاحاً لسماع وجهات النظر المختلفة. قبل التدريب، اختار 21% من المشاركين الموافقة بشدة على أنهم كانوا قادرين على الاستماع إلى شخص لديه آراء مختلفة دون مقاطعته. بعد الجلسات التدريبية الثلاث، اختار 58% الموافقة بشدة على هذا البند.
كم من الوقت يستغرق التدريب على الاستماع العميق ليصبح فعالاً؟ "هل يمكننا تدريب شخص ما في 10 دقائق؟ أجل. هل ستكون مدة 10 سنوات أفضل؟ بالتأكيد"، كما تقول وسيطة حل النزاع، كاثرين كونر. "عندما نقوم بتدريب الأشخاص، فإننا نعتبر ذلك بمثابة جلسة تعريفية مع بعض الممارسة الأولية".
يجسد الاستماع العميق طريقة للحياة، طريقة يمكننا تطبيقها يومياً مع الآخرين، انطلاقاً من الاعتراف الأساسي بإنسانيتهم وكرامتهم. إنه نهج يمكن لقادة التأثير الاجتماعي الاستفادة منه لتحقيق طموحاتهم لإحداث تغيير في الأنظمة، ويمكن للصحفيين استخدامه لفهم المجتمعات المحلية ذات التمثيل الضعيف بشكل أفضل. تعتبر ممارسة الاستماع العميق مهمةً لا سيما في سياق يخشى فيه المواطنون يخشون حدوث انقسامات سياسية أكبر وحيث أصبحت الآراء المتطرفة أكثر هيمنة. إذ يمكن لنهج الاستماع العميق أن يعزز محادثات أكثر صدقاً وأصالة حتى نفهم بعضنا بعضاً بشكل أفضل -وهي خطوة أولى ضرورية نحو خلق مجتمع أكثر تماسكاً ومرونة.
للاطلاع على الأجزاء السابقة من السلسة يمكنك زيارة المقالات الآتية:
1- ما أهمية الإنصات بعمق للتغيير الاجتماعي؟
2- 6 نصائح لممارسة الاستماع العميق غير اللفظي
3- نصائح لتطبيق مهارات الاستماع الفعال
تتقدم المؤلفة بالشكر لكل من أسهم في كتابة هذا المقال: وهم الأستاذ الجامعي أفراهام كلوغر، الذي حضرت وتحدثت في دورة الماجستير التي أقامها حول الاستماع، وغاري فريدمان وكاثرين كونر اللذان حضرت دورتهما حول وساطة حل النزاع التي أدارتها مؤسسة SolutionsJournalism.org. بالإضافة إلى أولئك المقتبسين في المقال، تود المؤلفة أيضاً أن تشكر من قدموا وقتهم لمشاركة الأفكار: مضيفة البودكاست راكيل آرك؛ وتشارلي بيكيت، أستاذ الإعلام بكلية "لندن للإعلام"؛ ومدير معهد "مارشال" بكلية "لندن للإعلام" ستيفان تشامبرز؛ ومدير مركز "مورتون دويتش الدولي للتعاون وحل النزاعات" بيتر كولمان؛ والمديرة المساعدة لصندوق "عائلة روكفلر"، جولي فرنانديز؛ ورئيسة مؤسسة "جذور التعاطف" ماري غوردون؛ وغاي إتزاكوف من جامعة حيفا؛ ورئيس قسم الاستماع في (JoConnect)، كورين يانسن؛ ومؤسس مؤسسة "فوسلات"، فوسلات دوغان سابانسي؛ وأماندا ريبلي؛ وآندرو شيريدان وديفيد نوكس من "المجلس الثقافي البريطاني"؛ ودوغلاس ستون من كلية "هارفارد للحقوق"؛ وماثيو تايلور، الرئيس التنفيذي لاتحاد (NHS)؛ وفريق مور إن كومون (More in Common) وفريق الرؤى السلوكية؛ وكل من أسهم في تدريبها على الاستماع العميق.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.