تبذل الجهات الحكومية والخاصة جهوداً لتقديم الخدمات التي توفر سبل حياة أفضل للأفراد في المجتمع، لكن مع كثرة التحديات التي تواجهها دول العالم، اتجهت الأنظار إلى القطاع الثالث، الذي يسمى أيضاً القطاع غير الربحي والقطاع الأهلي، ليُكمّل جهود القطاعين العام والخاص في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تطرق عالم الاجتماع الأميركي الألماني الأصل أميتاي إتزيوني لمصطلح القطاع الثالث لأول مرة في مقالته: "القطاع الثالث والمهمات المحلية" التي نشرت في مجلة "بابليك ادمنستريشن ريفيو" (Public Administration Review) عام 1973، ويضم هذا القطاع المؤسسات والجمعيات والمنظمات، والأنشطة المدنية والأهلية والخيرية والتطوعية التي تهدف للنهوض بالمجتمعات.
تتميز هيئات ومؤسسات القطاع الثالث بقدر أقل من الرسمية التي تتسم بها مثيلاتها في القطاع الحكومي، وتبتعد عن مبدأ الربحية بهدف زيادة رأس المال كما في القطاع الخاص، لكن هذا لا يعني أنها لا تحقق أرباحاً، وإنما يُعاد استثمار تلك الأرباح لتطوير الخدمات الاجتماعية المقدمة للأفراد وضمان استدامة أهداف التنمية.
القطاع غير الربحي
يمثل القطاع الثالث قوة اقتصادية كبيرة للدول التي تستثمر الأعمال الخيرية بفاعلية من أجل زيادة فرص العمل وتمكين المسؤولية الاجتماعية، وتشجيع ثقافة التطوع، وتنمية الاقتصاد وتنويعه، ويُعد التطوع ركناً أساسياً في هذا القطاع إذ يساعد في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ كشف تقرير حالة التطوع في العالم لعام 2018 الذي أجراه "برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين" بعنوان: "الرابط الذي يجمعنا: التطوع وقدرة المجتمع المحلي على الصمود" عن وجود ما يزيد عن مليار متطوع حول العالم بما يعادل 109 مليون موظف بدوام كامل، 30% منهم يعملون رسمياً في المؤسسات الخيرية.
يكتسب القطاع غير الربحي أهمية خاصة في الدول العربية التي تعمل على مواجهة تحديات التنمية المستدامة المتعلقة بالفقر والجوع والبطالة والنمو الاقتصادي والرعاية الصحية، وتربط السعودية استراتيجيتها المستقبلية بتنمية القطاع الثالث وتعزيز دوره في دعم المواطن السعودي والفئات المهمشة، وتفعيل شراكات أكثر واقعية بين الجهات الحكومية والخاصة والخيرية.
واقع القطاع الثالث في السعودية
وصل عدد المؤسسات غير الربحية في السعودية إلى 6,902 مؤسسة خلال عام 2021 بنمو قدره 166% مقارنة بـ 2,598 مؤسسة عام 2017، تركز أغلبها في مجالات الخدمات الاجتماعية، والدعوة والإرشاد الديني، وبحسب تقرير "آفاق القطاع غير الربحي 2021: قطاع ينمو بثقة" الصادر عن "مؤسسة الملك خالد الخيرية" ارتفعت مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي السعودي إلى ما يزيد عن 8 مليارات ريال سنوياً.
ذكر التقرير نفسه، أن عدد العاملين في القطاع غير الربحي بلغ 72,151 شخص، بنسبة توطين 78%، متجاوزاً هدف برنامج التحول الوطني لعام 2020 في تسجيل القطاع 50 ألف وظيفة، ووصل متوسط الرواتب إلى 5.796 ريال شهرياً للموظف بواقع 5 مليار ريال أجور سنوية، وشكل المتطوعون 26% من مجموع العاملين في المؤسسات غير الربحية بواقع 18,871 متطوع ومتطوعة أغلبهم من السعوديين.
لفت التقرير ذاته إلى أن 72% من السعوديين يثقون بالجهات غير الربحية، فيما يفضل 50% منهم أن يقتصر نشاط تلك الجهات على عمل الخير والرعاية الإنسانية.
في عام 2020، خلُصت الدراسة التي أجراها "منتدى الرياض الاقتصادي" بعنوان: "دور القطاع غير الربحي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية"، إلى أن القطاع غير الربحي يساهم بدرجة بين المتوسطة والضعيفة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة، وأن أضعف جوانب إدارة القطاع غير الربحي من وجهة نظر مجتمع الدراسة تتمثل في تدني الكفاءة الإدارية بأجهزة القطاع وضعف قنوات الاتصال الفعّال بين العاملين.
أظهرت الدراسة ذاتها أن التبرعات والهِبات برزت في الصدارة كأكبر مصادر التمويل للمؤسسات غير الربحية، تليها الأوقاف ثم استثمارات المؤسسة، أما مساهمات جهات المسؤولية الاجتماعية والمصادر الحكومية فقد جاءت كأقل مصادر التمويل أهمية لمؤسسات القطاع.
تحركات المملكة لدعم القطاع الثالث
تعمل السعودية على تقديم التسهيلات للنشاط غير الربحي وتوفير البيئة المناسبة لضمان نموه وتفعيل دوره في المجتمع، لذا قررت بالتعاون مع "الهيئة العامة للزكاة والدخل" استثناء الجمعيات الخيرية المسجلة تحت إشراف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من ضريبة القيمة المضافة (VAT).
تُدرك المملكة أن الوقف الخيري إحدى أدوات تمويل الجهات الخيرية، لذا تعمل من خلال الهيئة العامة للأوقاف على تعظيم الأثر التنموي للقطاع غير الربحي واستدامته، عبر دعم المشروعات والبرامج ذات الأثر الاجتماعي، وتسهيل تأسيس المؤسسات غير الربحية للأسر بما يسهم في النمو السريع للقطاع غير الربحي، وكذلك تهيئة البيئة التكنولوجية المساندة، وتعزيز التعاون بين مؤسسات القطاع غير الربحي والجهات الحكومية، وغرس ثقافة التطوع لدى أفراد المجتمع واستقطاب الكفاءات وتدريبها.
أطلقت الهيئة عام 2020 منصة وقفي كإحدى مبادرات التحول الرقمي لتفعيل المشاركة المجتمعية في دعم الأوقاف والقطاع غير الربحي، وتمكين المانحين من المساهمة الكلية أو الجزئية في دعم المشروعات وتمويلها رقمياً من خلال توفير خيارات دفع آمنة.
تتنوع مجالات الوقف المتاحة على المنصة بين الرعاية الصحية، والمشروعات التعليمية، والمشروعات الإغاثية، والمجال البيئي، والدعم الاجتماعي، ووصل عدد المساهمين فيها إلى نحو 306 ألف مساهم، بإجمالي مساهمات تخطى الـ 65 مليون ريال.
أنشأت المملكة المنصة الوطنية للعمل الخيري "إحسان" والتي تعمل على استثمار البيانات والذكاء الاصطناعي لدعم المشاريع والخدمات التنموية واستدامتها عبر تقديم الحلول التكنولوجية المتقدمة وبناء منظومة فاعلة من خلال الشراكات بين القطاعات الحكومية والخاصة وغير الربحية، لتعزيز دور المملكة في الأعمال التنموية والخيرية، ورفع مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي.
في سبتمبر 2021، تبرع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى المنصة بمبلغ 10 ملايين ريال، ما رفع إجمالي التبرعات إلى مليار ريال يستفيد منها أكثر من مليوني شخص في المملكة.
تأسس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي بقرار "مجلس الوزراء" عام 2019، بهدف تنظيم دور مؤسسات القطاع غير الربحي في المجالات التنموية، إذ يعمل المركز على تحديد استراتيجية القطاع غير الربحي، ودعم التشريعات والسياسات ذات العلاقة، وتسجيل المؤسسات غير الربحية وإصدار التراخيص اللازمة، إضافة إلى التنسيق والتكامل مع وحدات الإشراف الفني في الجهات الحكومية.
يُعد المركز أحد مبادرات برنامج التحول الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، والذي يعد هدفاً استراتيجياً ضمن رؤية 2030 التي تعمل على تمكين القطاع الثالث، وتعظيم أثره على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
القطاع الثالث ورؤية 2030
يعد القطاع غير الربحي أحد روافد التنمية ضمن رؤية 2030 الهادفة إلى رفع نسبة مساهمته في الناتج الإجمالي المحلي من 0.03% إلى 5% بحلول عام 2030، وزيادة عدد المتطوعين إلى مليون متطوع، وتنمية المجالات التي تخدم المجتمع، وترسيخ ثقافة المسؤولية الاجتماعية، وتعزيز قيم العمل الإنساني والتكامل مع الجهات الحكومية، وتطبيق التكافل الاجتماعي عبر تقديم المساعدات المختلفة للفئات المحتاجة من أيتام وأرامل وفقراء.
إذاً، القطاع غير الربحي هو المكون الثالث من مكونات التنمية ويتكامل دوره مع القطاعين العام والخاص لإحداث الأثر الإيجابي في المجتمع، لذا الآمال معقودة على رؤية 2030 ليساهم العمل الخيري في معالجة ملفات الأمن المائي والغذائي، والصحة والتعليم، والمساواة بين الجنسين وغيرها للوصول إلى النتائج المرجوة وخلق نموذج تنموي يحتذى به.