تقدم منصة "ستانفورد للابتكار الاجتماعي" الجزء الأول من سلسلة "الاستماع العميق"، الذي سنتحدث فيه عن ضرورة الإنصات بعمق لفهم الأمور وبناء العلاقات الصادقة الضرورية من أجل التغيير الاجتماعي.
يطمح معظم القادة في القطاع الاجتماعي للعمل بشكل متعاون مع الأشخاص الذين يعملون لخدمتهم. لدفع تغيير الأنظمة، تحتاج المؤسسات غير الربحية والممولون إلى فهم الأشخاص المختلفين عنهم وتضمين وجهات نظر المجموعات المتنوعة من أصحاب المصلحة ضمن عملية صناعة القرار الخاصة بهم. يمكن لمثل هذا النهج أن يساعد القادة على فهم العالم من خلال فهم العلاقات وتعقيد الأنظمة. تشير الأبحاث إلى أن أولئك الذين يستثمرون في جهود الاستماع والمشاركة يميلون إلى تكوين ممارسات مُنصفة بشكل أكبر، وهذه الممارسات تنضوي على التزام أكبر بالشمول وتشكل تأثيراً إيجابياً على المشاركين وأفراد المجتمع الذين يصبحون أكثر قدرة على الدفاع عن أنفسهم ومطالبهم أو مساءلة المسؤولين الرسميين.
في عام 2020، تسببت جائحة "كوفيد-19" واحتجاجات الحقوق المدنية ضد التمييز العرقي في خلق وعي أكبر حول المظاهر المتقاطعة لعدم المساواة والتفاوتات في السلطة بين قادة التغيير الاجتماعي ومُستَفيديهم، وبين فاعلي الخير والمؤسسات غير الحكومية التي يدعمونها، وبين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة الملونة الذين يعملون ضمن نفس المؤسسات. جرت العادة أن العمل الخيري والريادة الاجتماعية يعملان وفق نهج تنازلي. وقد أقرّ القادة من مختلف القطاعات أنهم يحتاجون إلى تعلم الإنصات والاستماع بفعالية أكبر للتواصل مع أصحاب المصلحة وفهم احتياجاتهم.
قال دارين ووكر، رئيس مؤسسة فورد (Ford Foundation)، في بيان حول رؤيته للأعمال الخيرية لعام 2019: "نحن نعلم أن المجتمعات الأكثر قرباً من المشاكل تمتلك رؤية فريدة للحلول. ولهذا السبب… يجب علينا التأكد أن الأشخاص المتأثرين بعملنا لهم رأي في تصميمه وتنفيذه".
إن الإنصات بعمق أمر أساسي لفهم حاجات المجتمع وأصحاب المصلحة. هذا النهج -الذي يُشار إليه أيضاً باسم الاستماع النشط، أو الاستماع التأملي، أو الاستماع الراديكالي- يتميز بالطريقة التي يدخل بها المستمعون إلى المحادثة ويشاركون فيها. ففضولهم وتعاطفهم واحترامهم للمتحدث ووعيهم الذاتي بمعتقداتهم وتحيزاتهم، كلها عوامل تؤثر في قدرتهم على الاستماع بعمق والتواصل بشكل أصيل مع المتحدث، بحيث يمكنهم استخلاص مشاعر المتحدثين والمعنى الحقيقي لكلماتهم.
في هذا المقال، أشرح نهج الاستماع العميق وأتناول التحديات التي قد تقف أمام ممارسته. بالاستلهام من خبرات رواد الأعمال الاجتماعيين والفاعلين الخيريين، بالإضافة إلى أبحاثي وممارساتي الخاصة، تستكشف أبواب هذا المقال مبادئ الاستماع الفردي. ومع ذلك، يمكن تطبيق بعض هذه الطرق على صعيد المؤسسات، لا سيما في الممارسات التي تتضمن أشخاصاً وأطرافاً عدة. تمت مشاركة المزيد من الأفكار حول مجال الاستماع المؤسسي من قبل أستاذ الاتصالات العامة جيم ماكنامارا، بجامعة التكنولوجيا في سيدني، الذي حدد عمله الرائد الإخفاقات العشرة الشائعة في الاستماع المؤسسي وتصحيحاتها.
ورغم أن الاستماع العميق ليس ضرورياً في كل محادثة، قد يجد القرّاء أنهم يرغبون في تضمين عناصره ضمن نطاق واسع من النقاشات -سواء مع الشركاء، أو المستفيدين، أو الزملاء، أو حتى مع عائلاتهم. إن الممارسة لا تتطلب من المستمع أن يتفق مع رسالة المتحدث؛ بل عوضاً عن ذلك، يجب على المستمع فقط أن يتعرف ويفهم وجهة نظر المتحدث. لذلك فإن هذا النهج هو أداة فعالة في المواقف التي يقف فيها المتحدث والمستمع على طرفين متعاكسين حول قضية ما وفي المواقف التي تكون فيها ديناميكية السلطة غير متساوية.
الانتباه والنية
المكون التأسيسي لمنهج الاستماع العميق هو كيفية حضور المستمع للمناقشة – من حيث نيته ونوع الانتباه الذي يوليه للمتحدث. حيث إن دخول المناقشات بتواضع هو طريقة بسيطة إلا أنها قد تكون حاسمة للغاية للمساعدة على خلق نقط التقاء أكثر عمقاً.
يجب على المستمع أن يبدأ بالعمل الداخلي في سبيل ضبط نيته وانتباهه. فالاستماع العميق هو ممارسة مكتسبة لا يمتلكها معظم الأشخاص بشكل فطري؛ حيث أوضح باحثو علم الأعصاب الإدراكي أن أدمغتنا تعمل على استخلاص المعلومات الأساسية غير المصقولة وإجراء تقييم سريع لأي شخص جديد نلتقي به من خلال الاعتماد على تجاربنا السابقة. وبذلك يكون المستمع قد كوّن عن شخص ما حكماً ما، حتى قبل أن ينطق هذا الشخص بكلمة واحدة. ومن المرجح أن تكون هذه الأحكام المسبقة أكثر تطرفاً إذا اعتقد المستمع أن المتحدث مختلف عنه، بسبب أن المتحدث يبدو بمظهر مختلف أو يأتي من بيئة مختلفة.
تعيق هذه الاختصارات الإدراكية قدرة المستمع على الدخول في النقاش بعقلية مفتوحة تماماً للاستماع، خاصةً عندما يمتلك مشاعر قوية بشأن ما تتم مناقشته، ووفقاً لعالمي النفس أكيفا ليبرمان وشيلي تشايكن، فالمستمع في هذه الحالة يسجل فقط المعلومات التي تدعم معتقداته. للتغلب على هذه التحديات، يجب على المستمعين أن يضعوا أنفسهم، في موضع الشخص "غير العارف"، على حد تعبير مدرب التواصل والتأمل الواعي مارتن فوغل، وذلك لإرجاء التوقعات حول ما قد يقوله المتحدث.
إن الأبحاث والمقالات الأكاديمية والأدبيات الأشمل حول الاستماع، غالباً ما تحثّ المستمع على عدم إصدار الأحكام تجاه المتحدث. ومع ذلك، فقد جادل غاري فريدمان، وسيط حل النزاعات والمدرب المخضرم في الاستماع العميق، بأن هذه التعليمات ليست فعالة لأن الأحكام هي الآليات التي نستخدمها لفهم العالم. بدلاً عن ذلك، فهو يدعو المستمع إلى الالتفات إلى الداخل ومحاولة إدراك أي تحيزات و/أو مشاعر قوية قد تنتابه ناجمة عن ما يسمعه. يسمح هذا التقييم الداخلي للمستمع بالتعرف على تأثير تلك الأحكام على وجهات نظره وتقبلها والتخلص منها، والانفتاح لسماع قصة الشخص الآخر وقبولها.
يساعد هذا العمل الداخلي التمهيدي في تهيئة المساحة لإجراء محادثة صادقة. يقول كيناري ويب، الرئيس التنفيذي للمنظمة البيئية غير الربحية "هيلث إن هارموني" (Health In Harmony)، التي تستخدم الاستماع العميق مع مجتمعات السكان الأصليين في المناطق التي تعاني من الإزالة الجائرة للغابات: "عندما تكون في حالة انسجام مع نفسك ولا تتصارع معها، فإن هذا النوع من الشعور الداخلي، المتمركز والهادئ والحاضر للاستماع حقاً، يساعد الجميع على الشعور بأنهم مسموعون ومُرحّب بهم ويجعلهم على استعداد للتعبير عن أنفسهم". يؤكد خبير الاستماع أفراهام كلوغر أيضاً أن إظهار الضعف بصدق يساعد في خلق شعور بالأمان: "لقد تعلمت أنه إذا كنتُ شجاعاً بما يكفي لمشاركة نقطة ضعف لدي، فهذا يوضح إلى حد ما أنني متصالح مع نفسي، وأنني أستطيع قبول الآخرين، بغض النظر عن مدى غرابتهم بالنسبة لي، مثلما أنا على استعداد لقبول أوجه غرابتي".
يجب ممارسة الاستماع العميق عن سبق قصد ونيّة، حيث يحتاج المستمع إلى مخالفة طريقة العمل المفضلة للدماغ من خلال الاختصارات الإدراكية والتحيزات المستندة إلى التجارب السابقة. وبدلاً عن ذلك، يحتاج المستمع إلى إظهار فضول صادق ويمكنه اتّباع الخطوات الست التالية لإظهار نواياه واهتمامه:
خذ الوقت الذي تحتاج إليه. امنح نفسك وقتاً لتصبح واعياً بنواياك قبل أي مواجهةٍ -سواء كنت تسعى للتأثير على المحادثة أو جمع المعلومات أو إقامة علاقة. قد ترغب في السيطرة على المحادثة لاكتشاف ما تعتقد أنت، المستمع، بحاجة إلى معرفته. تتطلب ممارسة الاستماع العميق التخلي بشكل مؤقت عن أجندتك الشخصية من أجل الانفتاح لقبول المتحدث والاستماع إلى ما يعتبره هو مهماً.
تخلص مما يشتت انتباهك. كن على دراية بأي شيء قد يشتت انتباهك، مثل هاتفك المحمول أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى. اضبط هذه العناصر على الوضع الصامت وضعها بعيداً عن الأنظار حتى تتمكن من منح اهتمامك الكامل للمتحدث.
قم بتقييم حالتك الذهنية. كن مُدركاً لمستوى انتباهك الحالي. هل تشعر أنك مُشتّت الانتباه؟ أو منزعج؟ أو متحمس؟ لاحظ مكان ظهور هذه المشاعر في جسدك، ثم تنفس بعمق، واسمح لها بمغادرة جسمك في أثناء الزفير.
تحقق من وسائلك الدفاعية. ذكر نفسك أنه من الآمن إلقاء درعك النفسي – فلا داعي للدفاع عن نفسك أو أن تكون دفاعياً في محادثة. أقرّ لنفسك أن هذه المحادثة قد تغيّرك بطرق لا يمكنك التنبؤ بها أو التحكم فيها.
اشعر بالمساحة المحيطة بك. اشعر بانفتاح المساحة أمامك، ومن حولك من خلال رؤيتك المحيطية، ومن فوقك، وعلى الأرض تحت قدميك. اشعر بالجاهزية للترحيب بالشخص الآخر ككيان كامل في فضاء ستبتكرانه معاً.
ثق بنفسك. ثق بأنك قادر على فهم الشخص الآخر بالكامل – ليس من خلال براعتك الفكرية، بل عبر أن تكون منفتحاً فكرياً وعاطفياً.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.