جزيرة أوكيناوا وعلاقة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بالاستعمار في اليابان

7 دقيقة
الاستعمار

ملخص: أسهم الاستعمار في استمرار اختلال توازن القوى بين جزيرة أوكيناوا والبر الرئيسي لليابان، ولكن ثمة طريق لاستعادة التوازن من خلال تغيير السياسات.

عزز الإرث الاستعماري التمييز الهيكلي في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى خلق حالات من الإقصاء والفقر في المجتمعات المقهورة والمهمشة، وفي اليابان يتجلى هذا الإرث بوضوح أكبر في أوكيناوا، الجزيرة التي كانت دولة مستقلة ذات يوم وخضعت لاحتلال أول مرة في أوائل القرن السابع عشر. يبلغ معدل الفقر في جزيرة أوكيناوا قرابة 35%، وهو ضعف المعدل الوطني، كما تتصدر معدلات البطالة والعمالة غير المنتظمة ونسب الأسر ذات المعيل الوحيد على مستوى البلاد، وفي الوقت نفسه لديها أدنى معدل للالتحاق بالجامعات.

يعزى هذا الفقر المدقع إلى أن أكثر من 70% من المساحة المستخدمة للمنشآت العسكرية الأميركية في اليابان تتركز في جزيرة أوكيناوا، على الرغم من أن هذه المحافظة لا تمثل سوى 0.6% من إجمالي مساحة البلاد. وعلى الرغم من أن تركيز القواعد في الجزيرة يحمّلها آثاراً اقتصادية وثقافية جسيمة، فالجهات الحكومية المختلفة تبرره بأنه ضروري لأسباب أمنية أو لأنه يجلب الدعم للاقتصاد الوطني. يعزو الكثير من الناس في المجتمع الياباني الفقر في أوكيناوا إلى ضغوط الخضوع إلى الأعراف المجتمعية وتدني احترام الذات في مجتمع يرتكز على الروابط الأسرية القوية والجذور المحلية. لكن هذه التبريرات سطحية وتصرف الانتباه عن المشكلة الأساسية؛ في الواقع، يعود الفقر المرتبط بتركز المنشآت العسكرية إلى شكل حديث من أشكال الاستعمار، وهو التفاوت في الهيكلية الناشئ عن آليات توزع السلطة بين جزيرة أوكيناوا والبر الرئيسي لليابان.

نعرّف التمييز الهيكلي في هذا المقال بأنه تطبيع التمييز ضد مجموعات معينة وإدامته اللاواعية، ويواجه إنهاؤه تحديات فريدة من نوعها؛ إذ قد لا يدركه من يعيشون ضمن هذه الهيكلية لأنه متجذر في الحياة اليومية. كما تشكل الموافقة الضمنية على الأحكام المسبقة الإيجابية تعقيداً إضافياً؛ فجزيرة أوكيناوا لها تاريخ وثقافة فريدان يميزانها عن تاريخ البر الرئيسي لليابان وثقافته، والتركيز عليهما -بالإشادة مثلاً ببيئتها الطبيعية وكرم الضيافة وثقافة الترفيه والنظام الغذائي الذي يطيل العمر- يبعد الأنظار عن التمييز الهيكلي ضد سكانها، كما يسهم بطريقة غير مقصودة في الربط بين فقرها وقيم سكانها المحليين وسلوكياتهم.

ولأن العديد من اليابانيين لا يدركون التمييز الهيكلي ضد أوكيناوا، فإنهاء هذا التمييز يتطلب فهم السياق التاريخي للقمع الذي تعرضت له الجزيرة وسبب استمراره، وفهم كيف يمكن لواضعي السياسات والمواطنين العمل على إعادة الإنصاف إلى المنطقة.

تاريخ من الاضطهاد

الاضطهاد والتمييز ضد جزيرة أوكيناوا متجذران بعمق في تاريخها؛ إذ كانت ذات يوم دولة مستقلة تسمى مملكة ريوكيو، وفي عام 1609 غزتها إحدى أقوى الإقطاعيات اليابانية التابعة لنظام شوغون توكوغاوا، ساتسوما، وأخضعتها لها في سبيل تحقيق مزايا تجارية مربحة وتأسيس موطئ قدم في منطقة ذات أهمية عسكرية وجيوسياسية كبيرة. وبعد سقوط نظام شوغون توكوغاوا، ألغت حكومة ميجي في اليابان نظام الإقطاعيات ودمجت جزيرة أوكيناوا رسمياً في الأراضي اليابانية في عام 1879.

برز استغلال أوكيناوا بوضوح خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، عندما استخدمتها الحكومة اليابانية كبش فداء من أجل كسب الوقت والدفاع عن البر الرئيسي لليابان. هدفت القوات الأميركية في معركة أوكيناوا عام 1945، التي شهدت سقوط ما يصل إلى 100,000 ضحية من المدنيين، إلى الاستيلاء على الجزيرة وجعلها قاعدة لتنفيذ خطتها لغزو اليابان. عندما انتهت الحرب لاحقاً في ذلك العام، وضعت الحكومة اليابانية دستوراً جديداً يتضمن مادة تنص على التخلي عن الحرب (المادة 9) مقابل السماح للولايات المتحدة باحتلال أوكيناوا وتسهيل عمل استراتيجياتها العسكرية في آسيا عبرها.

الأهم من ذلك أن معركة أوكيناوا دمرت السكك الحديدية في الجزيرة، وكان إنشاء الطرق بعد الحرب يخدم في المقام الأول المصالح العسكرية الأميركية، بالإضافة إلى أن الكثير من الأراضي الزراعية التي كانت المصدر الرئيسي للصناعة في أوكيناوا صودرت لبناء المنشآت العسكرية. علاوة على ذلك، لما كانت أوكيناوا خاضعة للإدارة الأميركية فهي لم تتلق المستوى نفسه من الاستثمارات المالية لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية الذي تلقاه البر الرئيسي لليابان بعد الحرب، ما أدى إلى تأخير كبير في تطوير بنيتها التحتية الاجتماعية والصناعية.

صدر قانون التدابير الخاصة للنهوض بجزيرة أوكيناوا وتنميتها في عام 1971 بهدف رأب الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الجزيرة وبقية اليابان، ولكن ما يقرب من نصف نفقات الأشغال العامة بموجب هذا القانون ذهبت إلى البر الرئيسي عن طريق شركات البناء الكبرى.

الدعوات المتعثرة للتغيير

استمرت الولايات المتحدة في السيطرة على أوكيناوا، واستخدمتها قاعدة للإمداد والانطلاق عندما بدأت حرب فيتنام، فنمت حركات مناهضة الاستعمار والدعوة إلى السلام بسرعة خلال تلك الفترة في أوكيناوا وبدأت تلقى صدى لدى الناس في البر الرئيسي لليابان. كان لكل من الولايات المتحدة واليابان مصالح في تهدئة هذه الحركات والحفاظ على الوضع الراهن، وفي عام 1972، أعادت الولايات المتحدة أوكيناوا إلى اليابان، لكنها واصلت استخدام قواعدها هناك متخلصةً من العبء المالي والانتقادات الدولية التي صاحبت الاحتلال. احتوت الحكومة اليابانية الحماسة القومية من خلال إضفاء الطابع الرسمي على عودة الجزيرة إلى سيطرتها، مع الحفاظ عليها جزءاً لا يتجزأ من إطار العمل الأمني بين الولايات المتحدة واليابان.

على الرغم من عودة أوكيناوا إلى اليابان، ما تزال اتفاقية وضع القوات الأميركية في اليابان تحمي حوادث الاعتداء الجنسي وغيرها من أعمال العنف التي ترتكبها القوات الأميركية من تحقيق سلطات إنفاذ القانون اليابانية إلى حد كبير حتى يومنا هذا، وما زالت الدعوات لمراجعة شاملة لهذه الاتفاقية مستمرة في جميع أنحاء البلاد، ومع ذلك لم يطرأ أي تغيير منذ أكثر من نصف قرن.

ظلت عملية نقل القواعد صعبة التحقيق، إذ أقر وزراء الدفاع اليابانيون المتعاقبون بأن نقل المنشآت العسكرية خارج الجزيرة لن يشكل أي مشكلة عسكرية، ولكنهم لا يرون أن الحصول على موافقة البر الرئيسي ممكن. في عام 2009، قطع رئيس الوزراء الياباني يوكيو هاتوياما وعداً انتخابياً بنقل القاعدة الجوية الأميركية في فوتينما خارج جزيرة أوكيناوا لكنه تراجع عن وعده في العام التالي. وفي فبراير/ شباط 2019، عارض أكثر من 70% من الناخبين في استفتاء غير ملزم على مستوى الجزيرة بناء قاعدة جديدة في منطقة هينوكو في جزيرة أوكيناوا أيضاً لتحل محل قاعدة فوتينما، ومنذ ذلك الحين والمواطنون يظهرون معارضتهم باستمرار (شغل ناغاتسوغو أساتو، الذي شارك في كتابة هذه المقالة، منصب نائب ممثل لجنة استفتاء هينوكو على أمل أن يُسمح لمجتمع أوكيناوا باتخاذ مثل هذه القرارات بأنفسهم).

نحو المساواة وتقرير المصير

يقول الأستاذ الجامعي في كلية هارفارد للحقوق، جي مارك رامسير، في بحث له بعنوان "نظرية رصد الطبقات السكانية الدنيا" (A Monitoring Theory of the Underclass)، إن الأقليات في اليابان مثلذوي الأصول الكورية الذين يلقبون بالزينيتشي (معظمهم من أحفاد الذين انتقلوا إلى اليابان أو أجبروا على الانتقال إليها خلال الحكم الاستعماري الياباني لكوريا) وأقلية البوراكومين (مجتمع منبوذ تاريخياً) وسكان أوكيناوا، يسعون إلى تحقيق إصلاحات وحلول لانتهاكات حقوق الإنسان بهدف الحصول على إعانات حكومية في المقام الأول. ويربط كذلك الفقر والخصائص الثقافية المتصورة في أوكيناوا، مثل انخفاض التحصيل العلمي وارتفاع معدلات الطلاق وارتفاع عدد الأطفال المولودين خارج إطار الزواج، بالخصائص الثقافية الفريدة لأوكيناوا.

انتقدت الصحف المحلية في أوكيناوا هذا البحث واعتبرته مثالاً خطراً على التمييز العرقي وتحديداً الثقافي منه، وهو نوع من التمييز القائم على الاختلافات في الثقافة واللغة والدين والتقاليد والعادات المستمدة من التاريخ الفريد. وعلى هذا النحو، فإنه يتغاضى عن دور التمييز الهيكلي والاستغلال الذي يكمن وراء الفقر المدقع في الجزيرة. أعطت السياسات المتبعة تجاه أوكيناوا الأولوية للرفاهة والسلامة والنمو الاقتصادي في البر الرئيسي على حساب الاحتياجات المحلية، وحرمت سكان الجزيرة من الظروف اللازمة لتقرير المصير السياسي، وكذلك وسائل إنتاج السلع والخدمات الأساسية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي.

تنص المادة 14، الفقرة 1 من الدستور الياباني على أن "جميع المواطنين متساوون أمام القانون ولا يجوز التمييز ضدهم على أساس العرق أو العقيدة أو الجنس أو الوضع الاجتماعي أو السلالة". عند التدقيق في النص، نرى إنه يشير إلى ضرورة معالجة الحالات التي وُضعت فيها المجموعات تاريخياً في مرتبة أدنى بسبب التمييز على أساس سمات محددة وتصحيحها، ولا يفهم العديد من الباحثين والمحامين الدستوريين اليابانيين هذه المادة على أنها حق في المساواة على نطاق المجتمعات، بل حق في المساواة من حيث الحقوق الفردية المحددة. لكن هذا التفسير يتجاهل أن الاستمرار في وضع عبء استضافة المنشآت العسكرية الأميركية على عاتق جزيرة أوكيناوا بسبب إحجام مواطني البر الرئيسي عن السماح بها في مناطق أخرى هو إنكار لمواطنة الجزيرة نفسها حتى قبل انتهاك حقوق سكانها الفردية، فالمطالبة بالاعتراف بانتهاك حق المساواة أساسية لتصحيح علاقات السلطة غير المتكافئة بين أوكيناوا والبر الرئيسي.

يتواصل التمييز الهيكلي بسبب التقاعس عن العمل، ولحل هذه المشكلة يجب على واضعي السياسات والمواطنين على حد سواء اتخاذ تدابير فعّالة. أولاً، يجب أن يعترف واضعو السياسات بأن قرار نقل القاعدة الجوية الأميركية في فوتينما إلى هينوكو انتهاك للمادة 14 الفقرة 1 من الدستور، التي تحظر التمييز. بعد أكثر من 25 عاماً من المداولات بات قرار نقل القاعدة داخل الجزيرة نهائياً الآن، ويجري العمل على تمهيد أرض الموقع الجديد لنقل القاعدة؛ صحيح أن إلغاء النقل صعب للغاية من الناحية السياسية، ولكن القبول به لن يؤدي إلا إلى تعزيز التمييز الهيكلي ضد أوكيناوا، كما يجب أن ينفذ واضعو السياسات تدابير مناهضة للتمييز تشمل جهود معالجة التمييز ووضع تشريعات لتخفيف عبء تركيز المنشآت العسكرية في أوكيناوا.

ثانياً، دستور اليابان دستور سلام، هذا ما ترمز إليه المادة 9 التي تنبذ الحرب. يجب أن يعيد واضعو السياسات النظر في هذه المادة، فهي وحدها غير كافية لتحقيق السلام دون أي شكل من أشكال العنف، مثل التمييز والاضطهاد والإقصاء والفقر. ولكن يمكن للمادتين 9 و14 مجتمعتين توجيه اليابان نحو سلام فعال خالٍ من التمييز الهيكلي، بعبارة أخرى، يعدّ التمييز في المعاملة بحد ذاته انتهاكاً.

ثالثا، يجب على واضعي السياسات مراجعة قانون التدابير الخاصة للنهوض بجزيرة أوكيناوا وتنميتها الذي شكل مجتمع أوكيناوا منذ عودتها إلى البر الرئيسي لليابان. وفقاً لهذا التشريع، الحكومة الوطنية هي التي تحدد السياسة الأساسية لتخطيط التنمية في أوكيناوا وليست محافظة أوكيناوا نفسها، ما يقيد استقلالية الجزيرة في الحكم وتقرير المصير ويحصرههما في إطار الحكومة الأبوية، وشكل القانون من الناحية العملية آلية للحفاظ على النظام الأمني الأميركي الياباني، ما أدى إلى تكريس التمييز.

وأخيراً، تنص المادة 95 من الدستور الياباني على أن أي قانون يقيد الحكم الذاتي لحكومة محلية معينة يتطلب موافقة سكانها من خلال استفتاء، ومع ذلك نُفذ قانون التدابير الخاصة لتعزيز جزيرة أوكيناوا وتنميتها دون هذا الإجراء على أساس أنه لا يقيد الحكم الذاتي. هذا القانون محدود زمنياً ويمدد العمل به كل 10 أعوام، وعلى الرغم من تزايد أعداد الخبراء الذين ينتقدون التمديد البسيط الإجراءات، فليس من السهل على حاكم المحافظة أن يطلب إلغاءه بسبب المخاوف من أن تخفض الحكومة الوطنية ميزانية الجزيرة؛ لكن هذا القرار ليس من شأن الخبراء أو الحاكم بل من شأن سكان أوكيناوا أنفسهم. تنتهي مدة القانون الحالية في 31 مارس/آذار 2032، وبالنظر إلى المستقبل من الضروري إجراء مناقشة عامة واسعة وعميقة في أوكيناوا حول خيارات تشمل التمديد أو الإلغاء أو حتى المطالبة باستقلالية متقدمة، وينبغي النظر في المقترحات العملية المحددة التي قدمها المحافظ ومجلس المحافظة، وكذلك طلبات سكان الجزيرة المباشرة لإجراء الاستفتاءات، وينبغي إشراك خبراء من مختلف المجالات.

بعد مرور أكثر من نصف قرن على عودة جزيرة أوكيناوا إلى البر الرئيسي لليابان، تستغل الحكومة اليابانية الجزيرة تحت ستار الأمن القومي والتنمية، ما يحرم شعب أوكيناوا من حقه في تقرير مصيره. تمثل معالجة الظلم والتمييز المُبطن، الذي يتجلى بتركيز القواعد العسكرية والفقر في الجزيرة، تحدياً هائلاً يتطلب تحولات سياسية وثقافية في آن معاً، كما يتطلب مشاركة نشطة من واضعي السياسات والمواطنين لتعديل التشريعات القائمة منذ فترة طويلة وتغيير نظرة الناس في البر الرئيسي إلى الجزيرة.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي