باتت توقعات الأشخاص حول أداء الشركات أكبر من أي وقت مضى، كما أصبحت مُطالبات اليوم تشمل أهدافاً مجتمعية تساعد على تحقيق التنمية المستدامة، إذ لا يكفي أن يرتبط نمو الشركات الخاصة والعامة على حدٍ سواء بتحقيق الأرباح، وإنما يجب أن يكون لها مساهمات إيجابية في المجتمع، وأن تكون معطاءة للخير، فكيف يمكن أن تقوم بمسؤوليتها الاجتماعية على أكمل وجه؟ الجواب هو وضع استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات ووضع خطة مدروسة للبرامج المجتمعية التي تُحدث تغييراً جذرياً في حياة الأفراد.
بحسب استطلاع أجرته شبكة "بي دبليو سي" (PwC) عام 2016 بعنوان: "إعادة تعريف نجاح الأعمال في عالم متغير"، يرى 76% من الرؤساء التنفيذيين المشاركين في الاستطلاع أن نجاح الأعمال التجارية يتعدى الربح المادي إلى إحداث التأثير المجتمعي.
استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات
هي الخطة الشاملة والوثيقة الأساسية لربط المسؤولية الاجتماعية للشركات باستراتيجيات الأعمال الأكبر، وضمان استمرار العمل الخيري للشركات على المسار الصحيح، وتغطي هذه الاستراتيجية كل جوانب المبادرات المجتمعية للشركات ابتداءً من سلسلة التوريد وانتهاءً بالحوكمة.
تعد استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات أمراً ضرورياً لبناء مبادرات فعالة وتنفيذها وتحسينها، إذ يرتبط معنى المسؤولية الاجتماعية للشركات بالتأثير في المجتمع عبر مبادرات الاستدامة، والبرامج التطوعية التي يمكن أن تنعكس إيجاباً على استقطاب المواهب ومعنويات الموظفين.
يمكن ربط استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات بخطة نمو أعمالها، وعند إعدادها يجب أن توائم الشركة برامج المسؤولية الاجتماعية مع الأهداف الأخرى، مثل تعزيز مشاركة الموظفين، وزيادة جاذبية الشركة أمام المستثمرين، وترسيخ سمعة العلامة التجارية.
أظهرت دراسة حول المسؤولية الاجتماعية أجرتها شركة "كون كوميونيكيشنز" (Cone Communications) عام 2017، أن 63% من المشاركين يأملون أن تأخذ الشركات زمام المبادرة لدفع التغيير الاجتماعي والبيئي إلى الأمام في ظل غياب التنظيم الحكومي، و78% منهم يريدون من الشركات معالجة قضايا العدالة الاجتماعية المهمة، وبحسب الدراسة ذاتها، اتباع استراتيجية للمسؤولية الاجتماعية سيؤثر في الأداء الاقتصادي للشركات، إذ أفاد 87% من المشاركين بأنهم سيشترون منتجاً لشركة إذا دافعت عن قضية يهتمون بها، فيما سيرفض 76% منهم شراء منتجات الشركة أو خدماتها في حال دعمها لقضية تتعارض مع معتقداتهم.
ليس فقط المستهلكين من يتطلعون إلى دور أكبر للشركات في جعل العالم مكاناً أفضل، ولكن أيضاً الموظفين، إذ وجد استطلاع "اتجاهات الوظائف والتوظيف التي ستراها في عام 2020 وما بعده" أجراه موقع غلاسدور (Glassdoor) للتوظيف عام 2019، أن 75% من الموظفين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً يتوقعون أن يتخذ أصحاب العمل موقفاً بشأن القضايا المهمة.
هذا التأثير الذي يتوقعه المساهمون والموظفون والعملاء والمجتمعات ككل من الشركات، يزيد من أهمية إعداد استراتيجية مسؤولية اجتماعية تساعد تلك الشركات على الالتزام بغاية مجتمعية وتحقيق التأثير الإيجابي.
فيما يلي نستعرض أهم خطوات إعداد استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات:
خطوات وضع استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات خلال جائحة كورونا
تعد جائحة كورونا من أكبر التحديات التي واجهت العالم، وفتحت الأنظار على أداء قطاع الأعمال ودوره في تخفيف وطأة الوباء على المجتمع، وباتت العلامات التجارية مطالبة بتفعيل عنصر العطاء وإدارة أعمالها بما يتسق مع القيم الإنسانية والأخلاقية، لذا أصدرت وحدة الدراسات التحليلية لدى شركة "دبليو 7 وورلد وايد" (W7Worldwide) للاستشارات الاستراتيجية والإعلامية، دليلاً استشارياً حدد 7 خطوات لإعداد استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية الفعالة للشركات خلال جائحة "كوفيد-19":
1- إعداد خطة المسؤولية الاجتماعية للشركات ومراجعتها:
مع التغيرات التي تطرأ على العملاء والموردين والمنافسين، تحتاج الشركات لمراجعة خطة مسؤوليتها الاجتماعية، ومعالجة تصميم المبادرات والبرامج المجتمعية وأساليب الترويج والاتصال، وإجراءات تقييم الأثر لتلائم هدف العمل العام، وعدم اتباع هذه الخطوة سيؤثر في سمعة الشركات وثقة المجتمع بها.
2- تحديد مجموعات المستفيدين:
تزداد رغبة الجمهور اليوم بمعرفة أدوار المسؤولية المجتمعية التي مارستها الشركات خلال فترة الجائحة، ما يزيد من أهمية تركيز الشركات على دعم المجتمعات المحلية وتنظيم المبادرات المجتمعية الفعالة، وهذا الاتجاه لا يقتصر على فترة الجائحة فقط، وإنما يمكن ملاحظته بصورة عامة، وفي ضوء تقرير أجرته شركة "جوي" (GWI) لأبحاث السوق عام 2020، والذي يدرس دور المسؤولية الاجتماعية للشركات في ظل تزايد وعي المستهلكينء، أفاد 68% من المستهلكين عبر الإنترنت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بأنهم يفكرون في إنهاء العلاقة مع علامة تجارية بسبب ضعف المسؤولية الاجتماعية للشركات أو تضليلها، وبالتالي يمكن دمجها في استراتيجية نمو المبيعات أو استراتيجية نجاح العميل.
3- التنسيق مع الجهات الحكومية:
تحتاج الشركات إلى القطاعات الحكومية للمساعدة في وضع القواعد والمعايير، وتقديم الدعم المالي والتوجيه في تشكيل أجندة المسؤولية الاجتماعية وإدارتها، ويعد فهم الدور المحتمل للمسؤولية الاجتماعية للشركات في سياسة الحكومة أمراً مهماً لتصميم خطة البرامج المجتمعية.
يمكن أن يعزز الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر التأثير الإيجابي للمسؤولية الاجتماعية للشركات على الابتكار التعاوني، ويساعد الدعم غير المباشر أيضاً على تعزيز التأثير الإيجابي لحوكمة الشركات في الابتكار التعاوني.
4- إشراك الموظفين في أنشطة المسؤولية الاجتماعية للشركة:
تعد مشاركة الموظفين في أنشطة المسؤولية الاجتماعية للشركات أحد عوامل المصداقية التي تؤثر في الصورة الذهنية لتلك الشركات أمام الرأي العام، وبحسب دراسة مشاركة الموظفين التي أجرتها شركة "كون كوميونيكيشنز" (Cone Communications) عام 2016، فإن 93% من المشاركين يريدون العمل لدى شركة تهتم بهم كفرد، ونحو 50% منهم أفادوا بأنهم لن يعملوا في شركة ليس لديها التزامات اجتماعية أو بيئية قوية، وقال 75% منهم إن وظيفتهم تكون أكثر إرضاءً إذا أُتيحت لهم الفرصة لإحداث تأثير إيجابي.
5- الابتكار في برامج المسؤولية الاجتماعية:
يتعين على الشركات أن تكون أنشطة المسؤولية الاجتماعية في صميم استراتيجياتها المبتكرة، لأن الابتكارات المستدامة من الأدوات الفعالة لتعزيز أنشطة المسؤولية الاجتماعية للشركات، ويتجلى تأثيرها في تعزيز القدرة التنافسية للشركة، وتطورات الاستراتيجيات وإطار العمل.
يساعد الابتكار الاجتماعي الشركات على تطوير العقلية والأدوات التي تمكنها من تنفيذ نماذج الأعمال المبتكرة ذات القيمة المضافة، التي تعمل على تحسين وضع المجتمع للأفضل، ويشكل ميزة تنافسية للشركات عند تضمينه في البرامج التي تسعى لمواجهة التحديات المجتمعية بدلاً من استخدامه في نموذج الأعمال العام.
6- تنشيط التواصل الداخلي والخارجي:
يجب أن تسخّر الشركات المنصات الرقمية ووسائل الإعلام المختلفة لتقديم معلومات عن مبادرات المسؤولية الاجتماعية الخاصة بها، وتلجأ بعض الشركات إلى إصدار تقرير سنوي حول أنشطتها في خدمة المجتمع، ومن الضروري أن تتوافق مثل هذه التقارير مع استراتيجية الشركة ورؤيتها، وأن توفر البيانات حول الأثر الإيجابي للبرامج المجتمعية، الأمر الذي يعزز من قوة العلامة التجارية لتلك الشركات.
7- التخطيط للمستقبل:
تحتاج الشركات أن تجعل تقدير المجتمع قيمة مترسخة في أعمالها وألّا تكون مجرد حيل تسويقية من أجل زيادة انتشارها أو أرباحها، لذا من الضروري أن تعيد تقييم مواردها وقدراتها لتتمكن من اكتشاف طرق جديدة تساعدها على مواجهة التحديات المتجددة، وأن تطور أنشطتها المجتمعية لتصبح أكثر شمولاً تكاملاً.
سرّعت الجائحة من وتيرة تطور المسؤولية الاجتماعية للشركات على المدى الطويل، ونظرت إليها بعض الشركات على أنها فرصة ثمينة لبناء الثقة مع المجتمع والعملاء، ومنها شركة "آل سالم جونسون كنترولز" السعودية لأنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء.
نموذج سعودي رائد في المسؤولية الاجتماعية
أدت شركة "آل سالم جونسون كنترولز" التي تدير محطات تبريد كبيرة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، دوراً مجتمعياً هاماً لخدمة الأماكن المقدسة ساعد الحجاج على أداء مناسكهم بأمان خلال فترة الجائحة، والتزمت الشركة بتوظيف أنظمتها الإلكترونية في إحداث تغييرات إيجابية تساعد العملاء والموردين على تحقيق أهدافهم، وتوفير بيئة صحية للجميع.
في عام 2020، تعاونت الشركة مع "وزارة الصحة السعودية" لمواجهة الجائحة في 21 مستشفى عبر توفير الفحص المجاني لجميع أنواع المبردات التجارية والصناعية ووحدات التكييف والتبريد في سبع مدن رئيسة، وجاء هذا الإجراء الفريد من نوعه في القطاع نتيجة إدراك الشركة لأهمية جودة نظام التدفئة والتهوية وتكييف الهواء في الحفاظ على سلامة المرضى والمرافقين، إضافةً إلى دعمها صندوق الوقف الصحي بمبلغ قدره 500 ألف ريال سعودي لمكافحة وباء كورونا.
وتمكنت الشركة خلال السنوات الثمان الماضية من بناء شراكات مجتمعية مع مراكز الأحياء في جدة وتبرعت لهم ببناء "مركز الروضة الطبي"، وبذلت جهود مثمرة في تدريب 80 طالباً من خريجي الكليات التقنية الصناعية ضمن مصانعها.
استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات في السعودية
تتكامل الخطوات التي عرضتها شركة "دبليو 7 وورلد وايد" مع ركائز استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات التي أطلقتها "وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية" السعودية في عام 2020، بهدف إلهام الشركات وتثقيفها لرفع مستوى الإنسانية في الأعمال التجارية، ولتكون عملاً ممنهجاً يتسم بالتأثير التنموي المستدام.
تضمنت الاستراتيجية التي أطلقتها الوزارة تحليل واقع المسؤولية الاجتماعية للشركات في السعودية، ومقارنته مع أفضل الممارسات الدولية في المجال، وتهدف إلى إنشاء بنية تحتية للمسؤولية الاجتماعية تعتمد على ستة ركائز:
- الشراكات والحوكمة.
- الأنظمة واللوائح.
- التخطيط الوطني.
- التحفيز والتشجيع.
- التوعية وتطوير القدرات.
- الرصد والقياس.
تأتي هذه الاستراتيجية في إطار "التمكين الاجتماعي"، وهو البعد الرابع ضمن أهداف برنامج التحول الوطني، ويتمثل ببناء معيار وطني وسياسات محفّزة لتفعيل برامج المسؤولية الاجتماعية التي تنعكس إيجاباً على البيئة والعملاء والموظفين وأصحاب المصلحة، وتدعم دور الحكومة في تقديم الخدمات للمجتمع.
وركزت الاستراتيجية على مؤشرين أساسيين لقياس التقدم في تنفيذ استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات، يقيس الأول نسبة إنفاق القطاع الخاص من إجمالي الإنفاق الاجتماعي، فيما يقيس الثاني نسبة الشركات الكبرى التي تقدم برامج المسؤولية الاجتماعية.
"ترجمة القول إلى فعل" هو المطلب الأساسي من الشركات اليوم، إذ يجب عليها اتباع الخطوات الفعالة لوضع استراتيجية مسؤولية اجتماعية تتماشى مع أولوياتها ومواردها، والاستثمار في برامج ومبادرات تحقق عائدات اجتماعية قابلة للقياس.