
كيف لشركة فُرش أسنان مستدامة مقرها كوريا الجنوبية أن تخفض حجم النفايات البلاستيكية والنفايات البيئية ومعدل الفقر، وتقدم خدمات اجتماعية، وتبني ثقافة مؤسسية سليمة، وتحقق أرباحاً، على أمل أن تحذو الشركات الأخرى حذوها.
لطالما لقبت وسائل الإعلام كوريا الجنوبية باسم "كوريا البلاستيكية" أو "مملكة القمامة" بسبب كمية النفايات البلاستيكية المعروفة التي تنتج عنها. يبلغ حجم النفايات البلاستيكية السنوية التي ينتجها الفرد الواحد فيها 44 كيلوغراماً (100 رطل تقريباً)، وهذا يجعلها ثالث أكبر منتج نفايات في العالم بعد أستراليا والولايات المتحدة. غير أن قضايا النفايات البلاستيكية تتجاوز شواطئ كوريا، ويقدَّر أن حجم النفايات البلاستيكية في جميع أنحاء العالم سيصل في حلول عام 2040 إلى 1.3 مليار طن تقريباً. أقل ما يقال عن الآثار الاجتماعية لهذا الحجم الهائل من النفايات أنها مقلقة. يمكن أن تؤدي المواد الكيميائية المنبعثة من النفايات البلاستيكية والمسببة لاضطراب في عمل الغدد الصماء إلى الإصابة بالسرطان وحدوث مشاكل في الإنجاب، وغالباً تشق الجسيمات البلاستيكية الدقيقة الناتجة عن عملية التحلل طريقها إلى مياه الصنبور والطعام.
إن فرشاة الأسنان التي تعد من اللوازم المنزلية التي يستخدمها معظم الناس يومياً، أحد المنتجات الكثيرة التي تكون جزءاً من الحجم الهائل من البلاستيك الذي نتخلص منه سنوياً. وإذا اتبع سكان العالم النصيحة الشائعة باستبدال فرش الأسنان كل 3 أشهر، فسنتخلص من 29.4 مليار فرشاة أسنان سنوياً، وهذا يعادل 600 ألف طن من النفايات. وكما يصعب إعادة تدوير أجزاء فرش الأسنان البلاستيكية الصغيرة والمتينة بالذات، فيحرق معظمها أو ينتهي بها المطاف في مدافن النفايات التي يحتمل أن يستغرق تحللها أحيائياً حتى 500 عام.
مع أخذ هذه المشاكل في الحسبان، وملاحظة إمكانية إيجاد الحل التجاري، أسس طبيب أسنان يدعى جيونوو بارك شركة المشاريع الاجتماعية "دكتور نواه" في عام 2016، وبدأ بتطوير فرش أسنان مصنوعة من الخيزران وقابلة للتحلل الحيوي لتكون بديلاً للفرش البلاستيكية. لكن تخفيض حجم النفايات البلاستيكية لم يكن هدفه الوحيد. فقد أراد جيونوو أيضاً زيادة دخل السكان في المناطق الشديدة الفقر، وهذا يشمل المناطق التي ينمو فيها الخيزران. ومن الناحية التجارية، رغب في خلق انسجام بين نمو الموظفين والشركة، وهو الأمر الذي جعله يتقدم خطوةً على معظم المؤسسات الكورية الجنوبية التي تفكر في اعتماد نهج الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG).
حالياً، أنتجت شركة "دكتور نواه" مليون فرشاة أسنان من الخيزران تقريباً، وخفض هذا حجم النفايات البلاستيكية بمقدار 17 ألف كيلوغرام تقريباً، وزاد من دخل المجتمعات التي كانت شديدة الفقر سابقاً. كما أنمت بيئة عمل تعزز الكفاءة والتوازن من خلال الاستقلالية وتفويض سلطة صناعة القرار وعقلية النمو.
تلقي قصة الشركة الضوء على طريقة الشركات في التطبيق الفعال للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وسنتعمق في هذه المقالة في ممارسات الإدارة المسؤولة اجتماعياً التي تعهدت شركة "دكتور نواه" باتباعها لتحرز تقدماً في كل من هذه المجالات.
تطوير منتج أفضل
بدأ جيونوو في عام 2008 السفر إلى المناطق النائية بجنوب آسيا ووسط إفريقيا بصفته متطوعاً في مجال الخدمة الطبية. عانت المجتمعات التي عمل معها من الفقر وافتقرت إلى الغذاء والماء والتعليم والرعاية الصحية. بعد إجرائه بعض الأبحاث، استنتج أن الخيزران -الأعشاب الخشبية التي توجد عادة في المناطق الشديدة الفقر في البقاع ذات مناخ الرياح الموسمية وشبه الاستوائية- قد يكون المفتاح لحل العديد من القضايا الاجتماعية المطروحة. يقول جيونوو: "أدركت أنه يمكننا معالجة المسببات الجذرية لهذه القضايا الاجتماعية إذا طبقنا نهجاً تجارياً، ليس فقط على شكل تقديم إغاثة، شعرت بفورة شغف لا يمكن تفسيرها ولم أشعر بها من قبل". لن يؤدي إنتاج فرش الأسنان المصنوعة من الخيزران وبيعها إلى زيادة دخل السكان في البلدان النامية فحسب، وإنما سيسهم أيضاً في الحد من النفايات البلاستيكية بطريقة تعادل أداء المبيعات.
بدأ جيونوو بزيارة الصين، حيث تصنّع معظم فرش الأسنان المصنوعة من الخيزران في العالم، ووجد أن فرش الأسنان المصنوعة في المناطق الشديدة الفقر تعتمد على العمل اليدوي، وكانت جودتها متدنية عند استخدامها، وإن تكلفة الفرشاة الواحدة أعلى من تكلفة الفرشاة البلاستيكية على الرغم من رخص المواد الخام مقارنة بالبلاستيك. للتغلب على هذه العوائق، اختبر تقنيات إنتاج مختلفة واعتمد في النهاية تقنية جديدة تسمى "الضغط الحار" التي خفضت خطوات عملية التصنيع من 21 إلى 11 خطوة. أنتجت هذه العملية فرش أسنان من الخيزران عالية الجودة وبأسعار منافسة للفرش البلاستيكية.
فرش الأسنان المصنوعة من الخيزران والبيئة
تتمثل إحدى المزايا الرئيسية لفرش الأسنان المصنوعة من الخيزران في أن معظم أجزاء الفرشاة يتحلل عضوياً أسرع من البلاستيك، ومع أن النايلون المستخدم في صنع شعيراتها لا يتحلل بسهولة ولم يطوَّر بديل عنه حتى الآن، تبقى بصمتها البيئية أصغر بكثير.
ومن ميزاتها الأخرى اهتمام المستهلكين المتزايد بالمنتجات التي لا تنتج نفايات، لا سيما بين أوساط "جيل إم زيد" (MZ generation) -وهو مصطلح كوري يشير إلى جيل الألفية (المواليد بين 1980 و1995) والجيل "زِد" (Z) (المواليد بين 1996 و2010)- الذين يميلون إلى شراء المنتجات بناءً على قيمهم ومعتقداتهم الشخصية. يمكن لجاذبية المنتجات الصديقة للبيئة لهؤلاء المشترين أن تحفز الشركات المنافسة على تطوير منتجاتها صديقة البيئة.
إضافة إلى ذلك، تتضامن شركة "دكتور نواه" مع المبادرات البيئية بصفتها مشاركة في حركة "1% لصالح كوكبنا" (1% for the Planet)، التي تخصص نسبةً من المبيعات السنوية للشركات لصالح المؤسسات البيئية.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية لاستخدام فرش الأسنان المصنوعة من الخيزران
كما سبق وأشرنا، يتخطى أثر أعمال شركة "الدكتور نواه" تناول الهواجس البيئية. فقد كانت أولويتها الأخرى تحسين مستوى دخل السكان المحليين في المناطق المنخفضة الدخل، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى صناعة الخيزران المتأخرة نسبياً في مناطق مثل فيتنام. عندما بدأ "جيونوو" بحثه في عام 2008، تلقى منتجو الخيزران الصينيون من 110 – 130 دولاراً لكل طن من الخيزران نظراً لارتفاع الطلب على الزجاج ومواد البناء، على حين يباع الخيزران الفيتنامي مقابل 30 إلى 40 دولاراً للطن الواحد. إن زيادة طلب الموردين على المواد الخام في المناطق الشديدة الفقر في فيتنام لدعم منتج ذي قيمة مضافة عالية (فرش الأسنان) أتاح لاحقاً للموردين رفع أسعارهم، وبالتالي أسهم في زيادة دخل السكان. على سبيل المثال، حالياً في مدينة تانه هوا، أكبر منطقة منتجة للخيزران في فيتنام، يكسب 400 ألف مقيم متوسط دخل شهري يبلغ نحو 80 ألف وون كوري (نحو 67 دولاراً أميركياً).
وقّعت شركة "دكتور نواه" مذكرة تفاهم مع حكومة تانه هوا المحلية في فيتنام، تسمح الحكومة بموجبها للشركة باستخدام 200 ألف متر مربع (حوالي 49 فداناً) من الأراضي مجاناً ودعم البنية الأساسية لمدة 50 عاماً. ستستثمر الشركة الأرض في بناء مصنع، الذي بدوره سيخلق المزيد من فرص العمل ويحسن استدامة القطاع. كما تجري دراسةً إلى جانب "معهد جامعة سيول الوطنية" (Seoul National University Institute) للآلات المتقدمة والتصميم حول الخصائص الفيزيائية للخيزران المحلي لتصديره واستخدامه في مكان آخر. يوضح جيونوو: "استوردنا 110 أطنان من الخيزران من فيتنام (إلى كوريا الجنوبية) بدءاً من عام 2019″، ونتيجةً لذلك "يُقدر أن نحو 1,350 مزارعاً فقيراً من مزارعي الخيزران وصلوا إلى مستوى الدخل المتوسط".
كما أن الأثر الإيجابي لشركة "دكتور نواه" واضح في كوريا الجنوبية. على سبيل المثال، تساعد الشركة خمسة من كبار السن كل شهر من خلال شركة "سي سي إل آي إم" (Cclim)، وهي مؤسسة توفر عربات يدوية آمنة وخفيفة لكبار السن الذين يجمعون الأوراق المرمية لإعادة تدويرها. تغطي شركة "دكتور نواه" تكاليف الدعاية للعربات التي تنقلها شركة "سي سي إل آي إم" إلى كبار السن الذين يستخدمونها. كما تدير شركة "دكتور نواه" عيادة أسنان تستقبل المشردين واللاجئين بالتعاون مع مؤسسة "أدفوكيتس فور بَبليك إنتريست لَو" (Advocates for Public Interest Law)، التي تعمل على تعزيز حقوق الإنسان لشريحة اللاجئين والمهاجرين، وتصدر مجلة "ذا بيغ إشو كوريا" (The Big Issue Korea)، وهي مجلة تساعد المشردين على تحقيق الاستقلال المالي.
بناء ثقافة مؤسسية فعالة وسليمة
مثلما نالت الشركة نصيبها من النجاح على عدة جبهات، كان لها نصيب من حالات الفشل أيضاً. بعد أن شهد جيونوو إجراءات العمل اليدوي غير الفعالة في الصين، سعى إلى أن يطور أول آلة في العالم تضع الشعيرات آلياً في فرش الأسنان المصنوعة من الخيزران. لكن الآلة التي استغرق تطويرها عامين، تعرضت لأعطال متكررة، وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، غادر جميع أعضاء فريق "دكتور نواه" الشركة، ولم يتبق فيها سوى جيونوو ومتدرب واحد. يقول جيونوو: "منذ ذلك الحين، أدركت أهمية وجود فريق من الخبراء، فركزنا على بناء الفريق".
حالياً يضم فريق شركة "دكتور نواه" القيادي أشخاصاً من خلفيات ومجالات خبرة مختلفة، قدم كل منهم مساهمة فريدة للشركة. على سبيل المثال، طور الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا جونتاي لي، الذي كان يدير سابقاً شركة كهرباء مبنية على الطاقة المتجددة ولديه خبرة في الهندسة الميكانيكية، تكنولوجيا الضغط الحار من خلال برنامج تعاون تعليمي-صناعي مع "معهد جامعة سيول الوطنية" للآلات المتقدمة والتصميم. كان الرئيس التنفيذي المشارك يوهان غي ورئيسة قسم المشتريات كاثي كو مبتكرين اجتماعيين لديهما خبرة في إدارة شركة تنقية المياه في أوغندا، وانضما لمساعدة شركة "دكتور نواه" في الدخول إلى الأسواق العالمية في أثناء توسعها. على الرغم من أنهم جميعاً خبراء في مجالات مختلفة تشمل تأمين التكنولوجيا الأساسية وعمليات الشركة وإدارة المنتجات، فقد اجتمعوا معاً تحت مظلة رؤية مشتركة تهدف إلى تخفيض حجم النفايات البلاستيكية ومعدل الفقر في آنٍ واحد.
في الوقت نفسه، تعمل الشركة على تنمية "بيئة ذات منحى إنمائي" لتقدير تنوع الموظفين واحتضانهم، وتنمية إمكاناتهم الفردية. تحقق ذلك من خلال توفير مساحة للتفكّر (مثل إجراء استقصاءات شهرية للفريق)، وتعزيز العلاقات والتواصل المفتوح بين الإدارات وبين الأقران (من خلال الاجتماعات التي تجمع الكل)، وتمويل مشتريات الكتب المتعلقة بالعمل ونفقات التدريب. تقول لي: "إن الهدف هو منح الموظفين فرصة التفكير في مسار النمو الفردي، وليس في مسار نمو كامل المجموعة فقط". تحاول الشركة أيضاً تعزيز بيئة عمل معدَّة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية من خلال وضع سياسات عمل مثل إجازة "اللحظة الواحدة" التي تسمح للعمال بأخذ استراحات تتراوح مدتها من ساعة إلى ساعتين، إضافةً إلى ساعات عمل مرنة تبدأ من الساعة 8 صباحاً حتى 7 مساءً، واستراحات غداء ينظمها الموظفون بأنفسهم بين فترة الظهر وحتى 2 مساءً.
أسهمت هذه المساعي في نمو شركة "دكتور نواه" السريع؛ فقد زاد عدد الموظفين من اثنين إلى 56 موظفاً خلال السنوات الأربع الماضية، وزاد أداء المبيعات ثمانية أضعاف خلال العام الماضي. ترى الشركة في التعويضات وفرص النمو حلولاً للاحتراق الوظيفي، وهي مشكلة يكافح العديد من شركات المشاريع الاجتماعية للتغلب عليها. يقول يوهان: "نعتقد أن تعويض الفرد يجب أن يتطابق مع مقدار المساهمة التي يقدمها في سبيل الصالح العام"، وشدد على ضرورة هجر الأفكار البالية التي تبرر التضحية الفردية في سبيل تحقيق أهداف الشركة الإيثارية. وعلى حين تسليم جيونوو بأن القول أسهل من الفعل، يؤكد أن الشركة ستنجز مهمة المؤسسة بأسلوب مستدام من خلال مواصلتها تحقيق التوازن بين الأثر والإيرادات والسعي نحو تحقيق رؤيتها.
أخذ زمام المبادرة في إدارة الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات
وصلت مبيعات شركة "دكتور نواه" إلى 800 مليون وُن (نحو 700 ألف دولار) في عام 2020، ونحو 1.1 مليار وُن (نحو مليون دولار) في النصف الأول من عام 2021 فقط. تتكامل قيمها المالية والاجتماعية بالكامل مع نموذج عملها الاجتماعي، كلما زادت المبيعات بوتيرة أسرع، أصبحت الإنجازات الاجتماعية أعظم، من ناحية حماية البيئة وخفض معدل الفقر. كما نالت العديد من جوائز الابتكار الاجتماعي، ومجموع استثمار تراكمي قدره 5.9 مليارات وُن (نحو 5 ملايين دولار)، تتضمن 800 مليون وُن من التمويل الأولي.
لكن لا تطمح شركة "دكتور نواه" أن تصبح الشركة التي تبيع معظم فرش الأسنان في العالم. بل تطمح إلى زيادة أثرها الاجتماعي إلى أقصى حد بأن تصبح شركةً تشجع كل شركة تصنع فرش أسنان بلاستيكية في العالم على صنع فرشاة أسنان مصنوعة من الخيزران. تفكّر في الأثر البيئي الذي يمكن أن تحدثه شركة "كولجيت" (Colgate) إذا باعت منتجات صديقة للبيئة، فهي البائع الأول في العالم لفرش الأسنان ومعجون الأسنان. بعد إطلاق العلامة التجارية المستدامة "جوني" (Juni) للعناية الفموية في الولايات المتحدة في عام 2020، يقول جيونوو أنه لا شيء مجزٍ أكثر من تحفيز شركات السلع الاستهلاكية العالمية مثل "كولجيت" على اتخاذ إجراءات صديقة للبيئة.
كانت شركة "دكتور نواه" منذ عام 2016 تسير بثبات على طريق الإدارة المستدامة للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في سعيها لتحقيق الأثر الاجتماعي والابتكار الاجتماعي. أدت مساعيها المستمرة لإجراء أبحاث جديدة ولتصبح شركة ذات قيمة اجتماعية أكبر إلى تحقيق نجاح على الأصعدة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. وفي المستقبل، ستستكشف وسائل لتقدير الأثر الناتج عن سلسلة توريدها، وهذا يتضمن مقدار التعاون الذي أدى إلى تحسين جودة حياة مزارعي الخيزران الفيتناميين وعائلاتهم. في خضم الاهتمام المتزايد بالمؤسسات الاجتماعية، تلهم شركة "دكتور نواه" رواد الأعمال الذين يحلمون بإطلاق شركات جديدة مسؤولة اجتماعياً، وتأخذ جميع مستويات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في الحسبان.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.