في عالمنا المعاصر، الذي تتسارع فيه وتيرة كل من التقدم التكنولوجي والرقمي، نجد أنفسنا نعيش في واقع كان يُعتبر خيالاً علمياً قبل عقود؛ من الاتصالات الفورية إلى وسائل النقل المتطورة، ومن الترفيه الرقمي إلى أساليب التصنيع الحديثة، ومن الطباعة الثلاثية الأبعاد إلى الذكاء الاصطناعي. كل هذه الإنجازات كانت يوماً ما مجرد أحلام في أذهان كتّاب الخيال العلمي مثل سلسلة "ستار تريك" وأفلام "حرب النجوم" و"ماتريكس" وغيرها.
تحققت أفكار خيالية كثيرة وأصبحت واقعاً نعيشه اليوم، مثل السيارات الذاتية القيادة، التي ظهرت في فيلم "لوغانز رن" عام 1976، والساعات الذكية المستوحاة من شخصية ديك تريسي، والأجهزة اللوحية كما في "ستار تريك". حتى السفر إلى المريخ، الذي كان يُعتبر خيالاً بعيد المنال، أصبح الآن من ضمن أجندة الإنجازات البشرية المستقبلية. لكن ماذا عن الخيال الاجتماعي؟
الخيال الإجتماعي: من الحلم إلى الواقع
قد يُظن أن الخيال مرتبط بالمركبات والمخلوقات الفضائية لكنه يقدم ما هو أكثر من مجرد الهروب من الواقع، فهو يوفر بدائل واقعية ومعقولة تمكّننا من كشف عدم ثبات الوضع الراهن ومدى المرونة التي يمكن أن يتمتع بها المستقبل.
وتكمن فائدة الخيال في كيفية إعادة تشكيل نظرنتا للعالم، إذ يعطينا مساحة لاختبار افتراضاتنا ويحررنا من القيود الزائفة بما يساعدنا على طرح الأسئلة الصحيحة لتشخيص المشاكل على نحوٍ أدق. لذا فإن الخيال يمكن أن يكون محركاً للتغيير الاجتماعي وتحسين الحياة. فعندما يُدمج مع القليل من الجرأة والتفكير الاستراتيجي، يمكن للأفكار أن تتحول إلى مشاريع مبتكرة قادرة على حل المشاكل الاجتماعية المستعصية.
يؤدي الخيال دوراً رئيسياً في المبادرات الاجتماعية، فاستياء الناس من الوضع الذي هم عليه وتخيلهم كيف يمكن أن تصبح الأمور أفضل، غالباً ما يدعم التحركات التي تعزز الرفاه والأمن والاستقرار، لكن العنصر الأساسي للخيال الاجتماعي كما وضحه عالم الاجتماع تشارلز رايت ميلز في كتابه "الخيال الاجتماعي" (The Social Imagination) الصادر عام 1959، هو توقف الأفراد عن حصر مواقفهم الشخصية في زوايا معزولة والانفتاح على النطاق المجتمعي الأوسع، وعن ذلك يقول: "لا يمكن فهم حياة الفرد أو تاريخ المجتمع دون فهم كليهما".
يسمح لنا الخيال المجتمعي بأن نفصل أنفسنا عن الواقع المألوف لظروفنا الشخصية، وأن ننظر إلى القضايا الاجتماعية من سياق أوسع، ما يساعدنا على تحديد الجوانب المختلفة للمجتمع والتشكيك فيها بصورة أفضل، بدلاً من العيش على نحو سلبي داخله.
على سبيل المثال، قد يشعر الفرد الذي يواجه البطالة بالهزيمة والاستنزاف والإحباط. من المرجح أن يقول لنفسه: "أنت لم تعمل بجد بما فيه الكفاية. لم تحاول بجد بما فيه الكفاية"، لكن سيرد عليه ميلز بمنطقه ليقول له: "ليس أنت، بل العالم من حولك"، إذ يعتقد ميلز أن الأمور تصبح أفضل عندما نعي تماماً العلاقة بين التجربة والمجتمع الأوسع.
طريقة تفكير مختلفة لتغيير الواقع
يحتاج التخطيط المستقبلي؛ أي من الحاضر إلى المستقبل، إلى التفكير بطريقة عكسية "من المستقبل إلى الحاضر" في الأهداف المنشودة لتعزيز إمكانات الوصول إلى المستقبل، فكما يقول ستيفن كوفي في كتابه الأكثر مبيعاً: العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية: "لا بد أن تبدأ والنهاية نصب عينيك".
ومن هذا المنطلق، حثّ الدكتور محمد يونس الحائز جائزة نوبل، الشباب على تخيل عالم خالٍ من الفقر والبطالة والأمية والأمراض المزمنة وتوظيف العلم والمعرفة والتكنولوجيا التي تجعله واقعاً. فعلى مدى العقود الماضية، ساعد الخيال على التوصل إلى ابتكارات علمية وتكنولوجية أحدثت تغييرات في المجتمع وأسهمت في تقدمه وتطوره، واستمر الاهتمام به ليصبح محركاً أساسياً للتحديث والتحسين. إذ لا يمكن للمجتمعات مواكبة احتياجاتها المعقدة والمتغيرة باستمرار، عبر الاعتماد على إرادة التغيير فقط؛ فهي بحاجة إلى مستويات عليا من التفكير من أجل الخروج بحلول فعالة للمشاكل الجوهرية.
على سبيل المثال، يمكن لتخيّل بعض النشاطات أن يحفّز المناطق المسؤولة عن الحركة في الدماغ، إذ يستخدم الأطباء هذا الأسلوب في العلاج التأهيلي لمرضى السكتة الدماغية لمساعدتهم على استعادة قدرتهم على الحركة، ومساعدة الرياضيين على تحسين أدائهم قبل خوضهم المنافسات.
وفي ظل التحديات التنموية المتزايدة التي يعيشها العالم اليوم، وخصوصاً في المنطقة العربية، يبرز دور الخيال الاجتماعي أكثر من أي وقت، ليضع حداً للمشاكل التي تؤثر في جودة حياة الأشخاص ورفاهيتهم، وهنا يعد "الإتقان التحفيزي العام" (motivational-general mastery) أحد أنواع التخيل المفيدة، الذي ينطوي على التركيز على الهدف مع تخيل التغلب على العقبات أو الانتكاسات.
على سبيل المثال، مع التغير المتسارع للمناخ يصبح كل من إعادة النظر في البُنى التحتية والتركيز على البناء الأخضر من الأولويات المُلحة لتحقيق التنمية المستدامة، وفي هذا الإطار ساعد الخيال على ظهور مبادرات عربية تمكّنت من تقديم حلول مبتكرة ومستدامة، منها مشروع "المباني الخضراء" في دبي الذي يركز على تطوير نظم بناء مستدامة، وبرنامج "أخضر" في السعودية الذي يعمل على تعزيز الوعي البيئي، ومشروع "شمسنا" في الأردن الذي يهدف إلى تعزيز استخدام الطاقة الشمسية. وفي المغرب تسعى مبادرة "المدارس الخضراء" إلى تحويل المدارس إلى مراكز للتعليم البيئي والاستدامة، ويعمل مشروع "بيتكم بيتنا" في مصر على تحسين ظروف السكن مع التركيز على الاستدامة.
كيف ندرِب خيالنا الاجتماعي؟
إن تطبيق الخيال الاجتماعي لا يتطلب من الأفراد والمؤسسات سوى الاستعداد للخروج من وجهة النظر الخاصة والنظر إلى العالم في سياقه التاريخي وكذلك الإنساني، وتجنب الإجراءات الموجودة من أجل البحث عن بدائل جديدة أكثر فعالية.
فالتفكير بطريقة مختلفة يساعدك على اتخاذ قرارات أقل تحيزاً، ولتدريب خيالك الاجتماعي، اعتد طرح الأسئلة حول السلوك الذي يبدو "طبيعياً" بالنسبة لك. لماذا تعتقد أنه طبيعي؟ أين تعلمت هذا السلوك؟ هل هناك أماكن أو مواقف معينة يعتبر فيها هذا السلوك غير طبيعياً؟
- حاول النظر إلى التجربة الإنسانية على المستويين الفردي والمجتمعي، وكذلك في سياق تاريخي محدد وواسع. على سبيل المثال، قد تبدو البطالة أنها مشكلة شخصية، لكن هناك الكثير من القضايا المجتمعية التي يمكن أن تسهم فيها، فإذا كنت عاطلاً عن العمل فقد يكون السبب هو عدم وجود وظائف متاحة في مكان قريب منك، خاصة إذا كنت مدرباً في مجال معين أو تحتاج إلى مستوى دخل معين لرعاية أسرتك. أو ربما سُرحت من العمل بسبب أزمة مالية تواجه المؤسسة، أو لأنك تعيش في مكان يُسمح فيه قانونياً بإنهاء العمل على أساس النوع أو الهوية. وقد لا تتمكن من العثور على عمل لأنك تقضي الكثير من الوقت في رعاية أسرتك بحيث لا تملك الوقت الكافي للتقدم إلى العديد من الوظائف.
- الأمر نفسه ينطبق على المؤسسات التي يجب أن تدرك أن حلول المشاكل الاجتماعية لا تركز على الاستراتيجيات الفردية فقط، بل تتطلب أيضاً معالجة مجموعة من العوامل المجتمعية والبيئية والثقافية المعقدة ذات الصلة، وتحدي المعايير الراسخة من أجل الوصول إلى أدوات مبتكرة تواكب التطورات المتسارعة. وهذا مثلاً ما فعلته المؤسسة غير الربحية نيت لايفرز لمواجهة مشكلة العُزلة الاجتماعية للشباب في كوريا الجنوبية.
بصفة عامة، يجب الوضع في الاعتبار دائماً، أن البشر نتاج للمجتمع، وأن المجتمع نتاج للإنسانية، فقد يتصرف الأشخاص على أساس فردي، ولكن رغباتهم وأفكارهم الفردية تتكون من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه.
الخيال الاجتماعي أكثر من مجرد توجه أو مبادرة؛ إنه يمثل ثقافة وأسلوب حياة يجسدان الرغبة في تحقيق عالم أفضل.