اشترك
الوضع المظلم
الوضع النهاري

الاستمرار بالحساب الحالي

اقتصاد الرفاه: ما هو؟ وما هي الدول التي تطبقه؟

إعداد : آنا كريسوبولو

 

تم النشر 06 أبريل 2021

شارك
شارك

نتحدث في مقالتنا هذه عن مفهوم اقتصاد الرفاه، مع عرض فوائد تطبيقه، ونماذج عالمية عنه.

من أجل إيجاد حلول للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي نواجهها اليوم، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الوضع الراهن، وينبغي على الحكومات والمؤسسات في جميع أنحاء العالم تبنّي طرق جديدة في التفكير، والمشاركة بفاعلية في ابتكار أنظمة من شأنها تحقيق تقدم حقيقي نحو عالم أكثر صحةً وازدهاراً. في المقابل، تواصل معظم الحكومات والمؤسسات تأطير عملها ضمن النماذج الاقتصادية التقليدية؛ من دون إدراك الضرر الذي تسببه للمجتمع والكوكب، وغالباً ما يتجلى ذلك في اتخاذ تدابير تتناول النتائج وليس الأسباب؛ مثل علاج أمراض الجهاز التنفسي التي تفاقمت بسبب تلوث الهواء، بدلاً من الاستثمار في تحسين النقل العام، أو إجراء عمليات ترميم بعد حدوث فيضانات ناجمة عن تغير المناخ، بدلاً من التخلص من الوقود الأحفوري والاستثمار في الطاقة النظيفة، أو التركيز على التدخلات الصحية المتعلقة بالنظام الغذائي السيئ، بدلاً من تحسين سلاسل التوريد الزراعي وتشجيع المستهلكين على طلب الغذاء الصحي. في حين أن الجهود المبذولة للحد من آثار تلك القضايا أمر بالغ الأهمية، لكنها في النهاية لا تعالج أسبابها الجذرية أو تنظر بترابطها.

نحن بحاجة إلى نظام اقتصادي يتخذ نهجاً وقائياً للتحديات الاجتماعية والبيئية، لضمان عدم حدوث مشكلات لاحقة مثل المذكورة أعلاه في المقام الأول، أو أن تكون أقل خطورة بدرجة ملموسة. لحسن الحظ، بدأت بعض البلدان حقاً بالعمل على توسيع مفهومها لقياس النجاح الاقتصادي بطريقة تشمل الرفاه والاستدامة، إنها تعمل معاً لتصور وتنفيذ نموذج اقتصادي جديد؛ وهو «اقتصاد الرفاه»، الذي يشمل طائفة متنوعة من الأفكار والإجراءات؛ التي تهدف إلى تطوير مفهوم الرفاه الاجتماعي، من خلال هياكل الإدارة التي تدعم التعايش السلمي، وتلبية احتياجات الإنسان الأساسية. يوفر اقتصاد الرفاه للناس فرصاً متساوية للتطور والشعور بالاندماج الاجتماعي والاستقرار؛ إذ تساهم جميع هذه العوامل في مرونة الإنسان، والأهم من ذلك؛ أنها تحافظ على الانسجام مع الطبيعة وتدعمها. يهدف اقتصاد الرفاه إلى خدمة الناس والمجتمعات أولاً وقبل أي شيء آخر، ويقدم مساراً واعداً نحو رفاه اجتماعي أشمل، وصحة بيئية.

أوجه قصور النمو الاقتصادي

على مدار الأربعين عاماً الماضية، أدت الأنشطة التي يقوم بها البشر وإعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي؛ على حساب جوانب مثل المساواة والتعليم والصحة والعلاقات الاجتماعية، إلى استنفاد الموارد الطبيعية للأرض بشكل أسرع مما يمكننا استعادتها. وفقاً لـ«مؤشر الكوكب الحي» (Living Planet Index)، يستمر التنوع البيولوجي للكوكب في الانخفاض، بينما يزداد الجفاف وحرائق الغابات، وترتفع درجات الحرارة أكثر. هذا التدهور البيئي له أثر عميق على صحة سكان الكوكب وأمنهم الاقتصادي؛ على سبيل المثال، هناك نحو 7 ملايين حالة وفاة سنوية مرتبطة بارتفاع مستويات تلوث الهواء، وبحلول عام 2030، سيعاني ما بين 68 مليون إلى 132 مليون شخص من الفقر كنتيجة مباشرة لتغير المناخ.

يستخدم النظام الاقتصادي السائد للرأسمالية مقاييساً مثل الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، لقياس نجاح المجتمعات، لكنه يتجاهل- في كثير من الأحيان- التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، والانعكاسات السلبية على الصحة والرفاه عالمياً. وفقاً لـ«تقرير انعدام المساواة العالمي» (World Inequality Report,) لعام 2018، ارتفع مستوى انعدام المساواة في الدخل بشكل كبير على المستوى العالمي منذ عام 1980، ويقدر التقرير ذاته أنه على الرغم من ارتفاع متوسط ​​دخل 50% من سكان العالم ذوي الدخل المنخفض خلال العقود الماضية، حقق هؤلاء الأفراد نصف معدل النمو الذي حققه الأفراد المنتمون إلى الشريحة الأغنى؛ المقدرة بـ1%، كما لا تزال مسألة انعدام المساواة بين الجنسين قائمة على مستوى العالم؛ حيث تقدر الأمم المتحدة أن النساء يكسبن 16% أقل من الرجال في المتوسط ​​على مستوى العالم.

تؤثر قضية انعدام المساواة الاقتصادية سلباً على المجتمعات، ويمكن أن ترفع مستوى القلق والمرض، وتؤجج الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وقد أدت جائحة كورونا إلى تفاقم القضايا الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ودفعت بعض الحكومات إلى إعادة النظر في تعريف المجتمع الصحي المزدهر، والنظر في إمكانية زيادة دعم الاقتصاد للرفاه على مستوى العالم.

ثلاثة مبادئ لاقتصاد الرفاه

تدرك الحكومات التي تسعى إلى دعم نموذج اقتصاد الرفاه أن الناس بحاجة إلى استعادة علاقة متناغمة بين المجتمع والطبيعة، والتمتع بتوزيع عادل للموارد، والعيش في مجتمعات صحية قادرة على التكيف، وقد بدأت هذه العناصر في التبلور في السياسات الفردية للعديد من البلدان.

1.إعادة العلاقة المتناغمة بين المجتمع والطبيعة:

لا يدعم اقتصاد الرفاه جودة الحياة للجميع فحسب؛ بما في ذلك الصحة البدنية والنفسية الجيدة والقدرة على تحقيق الطموحات، لكنه يدعم أيضاً الاستدامة لكوكب الأرض؛ إذ يبدأ بناء المجتمع الصحي والمزدهر بالطبيعة، حيث ينظر إليها على أنها مورد لتلبية احتياجاته الاستهلاكية، ونظام نحن جزء منه.

تمثل كوستاريكا أحد الأمثلة للدول التي تنفذ سياسات خاصةً لاستعادة علاقة المجتمع بالبيئة؛ إذ تحتل مرتبةً من بين أفضل الدول أداءً وفقاً لـ«مؤشر التطور الاجتماعي» (Social Progress Index)، وتعتبر الدولة الاستوائية الوحيدة التي تصدت لإزالة الغابات، وقد التزمت بمواءمة أولوياتها الوطنية مع الإجراءات العالمية لمكافحة تغير المناخ؛ من خلال تحديد هدف بأن تكون خالية من الكربون في عام 2050. تتضمن خطتها الوطنية هذه استراتيجيات لكافة قطاعات الاقتصاد؛ بما في ذلك النقل العام والخاص والطاقة والصناعة ومعالجة النفايات والزراعة، وفي عام 2018، أنتجت الدولة 98% من الكهرباء من مصادر متجددة، للعام الرابع على التوالي، وتهدف إلى الوصول لنسبة 100% بحلول عام 2030.

2.ضمان التوزيع العادل للموارد لمعالجة انعدام المساواة الاقتصادية: 

ينطوي تطوير اقتصاد الرفاه على العديد من جوانب المجتمع؛ بما في ذلك الأمن الاقتصادي والسلامة والصحة والمجتمع، وتميل البلدان التي تتمتع بمستويات أعلى من الرفاه إلى تحقيق مساواة أكبر بين الشرائح السكانية، وخفض عدد الأفراد الذين يعيشون في الفقر.

في السنوات الأخيرة، ونتيجةً للعمل الجماعي والإرادة السياسية وأدواتها؛ مثل التشريعات والموازنة ونظام الحصص، احتلت آيسلندا المرتبة الأولى عالمياً من ناحية المساواة بين الجنسين؛ ذلك وفقاً لـ«المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين» (Global Gender Gap Index) الذي وضعه «المنتدى الاقتصادي العالمي»؛ حيث يتألف مجلس الوزراء الآيسلندي-على سبيل المثال- من خمس نساء وستة رجال، مقارنةً بالنهج العالمي المتمثل في أن تكون هناك امرأة واحدة بين كل خمسة وزراء، وينعكس ذلك أيضاً على سياسة الإجازة للوالدين؛ حيث يحصل كلٌ من الرجال والنساء على ثلاثة أشهر مدفوعة الأجر عند الإنجاب، ولا يمكن تحويلها إلى الآخر، وكذلك تقديم «قانون المساواة في الأجور» (Equal Pay Certification)؛ المستند إلى نظام إدارة المساواة في الأجر، والذي يحظر ممارسات التمييز بين الجنسين في أماكن العمل.

3.دعم أفراد ومجتمعات صحية ومرنة: 

في اقتصاد الرفاه الناجح، يعيش جميع الأفراد بكرامة، ويكون لديهم شعور بالارتباط والانتماء، وينخرطون بنشاط في مجتمعاتهم، ويتمتعون بفرص متساوية للوصول إلى الوسائل التي تدعم احتياجاتهم الأساسية؛ بما في ذلك دعم الرفاه الجسدي والنفسي والعاطفي والاجتماعي والروحي. تعمل البلدان التي تدرك العلاقة بين الرفاه الفردي والجماعي ودور الاقتصاد في تعزيز الرفاه، على تنفيذ سياسات تدعم شروط الإسكان المرضية، والسلامة، والعلاقات القوية على نطاق المجتمعات، والثقة في الإجراءات السياسية.

وفقاً لـ«مؤشر الحياة الأفضل» (Better Life Index) عام 2019؛ والذي وضعته «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD)، تحتل كندا مرتبةً أعلى من المتوسط ​​في التدابير المتعلقة بالإسكان وأمن الأفراد والروابط الاجتماعية والمشاركة المدنية والتوازن بين العمل والحياة الشخصية، وقد أنجزت ذلك جزئياً من خلال الحد من عدد ساعات العمل اليومية والأسبوعية المسموح بها، وتحديد شروط أجور العمل الإضافي؛ إذ وضعت على سبيل المثال، سياسات تشجع ممارسات العمل الداعمة والمرنة، مثل «برنامج رعاية الأطفال ليوم كامل» (Full-Day Kindergarten Programme)؛ والذي يدعو المدارس إلى وضع برامج لرعاية الأطفال قبل المدرسة وبعدها، وتوفير مرونة  أكبر للآباء لدعمهم من أجل الوفاء بالتزاماتهم. في الوقت نفسه، يفيد 93% من الكنديين أن لديهم شبكة اجتماعية قوية، ويبلغون عن مستويات عالية من الرضا عن حياتهم؛ وهو مقياس يحدده كيف يقيّم الناس حياتهم بالمجمل.

ترسيخ الرفاه الجماعي على نطاق أوسع

تتجاوز بعض الحكومات السياسات والممارسات الفردية الموضحة أعلاه، وتتبنى نهجاً شاملاً لصنع القرار، بهدف تطوير اقتصادات الرفاه، ويتضح هذا في أطر السياسات الوطنية؛ التي تفرض التعاون بين الإدارات الحكومية والهيئات العامة، وتضع الرفاه في صُلب قرارات الموازنة، وتقدم مؤشرات الرخاء بخلاف الناتج المحلي الإجمالي. تُدخل هذه المبادرات الأشمل الرفاه الجماعي في صميم صنع السياسات الاقتصادية، وتسمح لصنّاع السياسات بتحديد أهداف تركز بوضوح على دعم هذا النموذج.

بالنظر إلى الدور المحفز الذي يمكن أن يلعبه الاقتصاد في بناء مجتمعات أكثر صحةً، اجتمعت الحكومات المحلية والإقليمية في اسكتلندا وآيسلندا ونيوزيلندا في «منتدى الرفاه» (Wellbeing Forum)؛ التابع لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، عام 2018، وشكلت شراكةً تحت مسمى «حكومات اقتصاد الرفاه» (WEGo)؛ وقد انضمت ويلز إليها في أبريل/نيسان 2020. تهدف الشراكة إلى تبادل الخبرات والممارسات السياسية القابلة للنقل، بهدف تعزيز الطموح المشترك؛ المتمثل في بناء اقتصاد الرفاه.

كانت هذه الحكومات تحرز تقدماً في اتجاه دمج الرفاه في السياسة الوطنية على نطاق أوسع قبل المؤتمر؛ على سبيل المثال، أطلقت ويلز «قانون رفاه الأجيال القادمة» (Wellbeing of Future Generations Act) عام 2015، بهدف تحسين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والثقافي في البلد؛ حيث يفوض القانون الهيئات العامة- بالتعاون مع بعضها البعض، ومع الأفراد والمجتمعات- لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية؛ مثل الفقر وتغير المناخ، ويكون المطلوب من هذه الهيئات العمل على تحقيق جميع الأهداف المحددة؛ بحيث يدعمها دور جديد يضطلع به مفوّض لشؤون الأجيال القادمة، بغية تحقيق أثر طويل الأجل.

يهدف «إطار عمل الأداء الوطني» (National Performance Framework) في اسكتلندا؛ الذي تم إطلاقه عام 2007، وتمت مراجعته عام 2018، إلى خلق «دولة مزدهرة أكثر، وإتاحة الفرص لجميع الاسكتلنديين لتحقيق النجاح؛ من خلال رفع مستوى الرفاه والنمو الاقتصادي المستدام والشامل». يوضح إطار العمل هذا تحولاً نحو تحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي وبيئي أوسع، من خلال تحديد 11 نتيجة وطنية منشودة؛ من ضمنها خلق مجتمعات شاملة للجميع، وممكّنة ومرنة وآمنة، والحد من الفقر من خلال تعزيز التقاسم المتكافئ للفرص والثروة والسلطة، ومن أجل قياس التقدم نحو هذه النتائج، اعتمدت الحكومة حزمة مؤشرات مؤلفة من 81 مؤشراً؛ بما في ذلك الشعور بالوحدة، ومجتمع الملكية، وانعدام الأمن الغذائي، وانعدام المساواة في توزيع الثروة.

وافقت الحكومة الآيسلندية في أبريل/نيسان 2020، على إطار عمل مؤلف من 39 مؤشراً لتقييم رفاه السكان، مع التركيز على العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتشمل المؤشرات: الثقة في الإجراءات السياسية، والصحة النفسية، والرضا الوظيفي، والتوازن بين العمل والحياة الشخصية، والعدالة البيئية والاجتماعية. تعمل الحكومة مع مكتب الإحصاء الوطني على جمع البيانات ورصد المؤشرات بصورة منتظمة، بهدف تزويد سياسة الحكومة وخطتها الاستراتيجية المالية الممتدة لخمس سنوات بالمعلومات اللازمة.

في الوقت نفسه، تضع «موازنة الرفاه» (Wellbeing Budget) الأولى لنيوزيلندا؛ والتي قُدمت عام 2019، رفاه المواطن والاستدامة البيئية في صميم قرارات الموازنة، وبناءً على البيانات المستقاة من مستويات المعيشة، وأخذ المشورة من خبراء حكوميين في المجال العلمي، تأخذ الموازنة في الاعتبار العوامل الاجتماعية والبيئية، وجودة النشاط الاقتصادي، والأثر طويل الأجل للسياسات الحالية، وتتطلب أن تعمل الإدارات الحكومية على دعم الرفاه الجسدي والنفسي لأفراد المجتمع، وخلق فرص للانتقال العادل لنظام قادر على امتصاص آثار تغير المناخ، والتحول إلى اقتصاد مرن، وتحسين مستويات المعيشة للسكان الأصليين، والحد من مستوى فقر الأطفال، والتصدي للعنف المنزلي، ودعم بلد مزدهر من خلال الابتكار.

من خلال إعادة تحديد الأهداف والتوقعات على مستوى السياسات والأعمال والمجتمع، يمكن للبلدان تحويل الاقتصاد التقليدي؛ الذي يركز على النمو الاقتصادي، إلى اقتصاد يبني عالماً صحياً ومزدهراً ويحافظ عليه. كما توضح الأمثلة أعلاه، يلعب صنّاع السياسات دوراً حيوياً في هذا الإطار، وينبغي على قادة الحكومات الانفتاح على طرق جديدة في التفكير، والالتزام بنظم ابتكار واسعة النطاق؛ من خلال تطبيق مبادئ اقتصاد الرفاه، للمساعدة في رسم الطريق للمستقبل.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!