اقتصاد الرفاهة: ما المقصود به؟ وما الدول التي تطبقه؟

اقتصاد الرفاهة
Shutterstock.com/Stanislav71
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

علينا أن نعيد النظر في الوضع الراهن إذا أردنا حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي نواجهها اليوم، كما يتعين على الحكومات والمؤسسات في مختلف أنحاء العالم أن تتبنى طرائق جديدة للتفكير وأن تشارك بنشاط في ابتكار الأنظمة على نطاق واسع لتحقيق تقدم حقيقي نحو عالم أكثر صحة وازدهاراً. ومع ذلك، تستمر غالبيتها في تأطير عملها ضمن النماذج الاقتصادية التقليدية، دون الاعتراف بالضرر الذي تلحقه بالمجتمع والكوكب. ويتجلى هذا الإطار غالباً في علاج الأعراض بدلاً من أسباب المشكلة، مثل علاج أمراض الجهاز التنفسي التي تتفاقم بسبب تلوث الهواء بدلاً من الاستثمار في وسائل النقل العام؛ وإعادة البناء بعد الفيضانات الناجمة عن التغير المناخي بدلاً من التخلص من الوقود الأحفوري والاستثمار في الطاقة النظيفة؛ أو التركيز على التدخلات الصحية المرتبطة بسوء التغذية بدلاً من تحسين سلاسل التوريد الزراعية وتشجيع طلب المستهلكين على الغذاء الصحي. وعلى الرغم من أهمية الجهود المبذولة للتخفيف من التأثيرات الناتجة من المشكلات الكبيرة، فإنها لا تعالج أسبابها الجذرية والترابط بين هذه الأسباب.

نحتاج إلى نظام اقتصادي يتبنى نهجاً وقائياً في التعامل مع التحديات الاجتماعية والبيئية لضمان عدم ظهور أنواع المشكلات المترابطة المذكورة أعلاه في المقام الأول أو تخفيف حدتها. ومن الجيد أن العمل في هذا الاتجاه قد بدأ فعلاً، إذ تعمل بعض البلدان على التوسّع في قياس النجاح الاقتصادي بطريقة تشمل الرفاهة والاستدامة. فهي تعمل وتتعاون لتشكيل نموذج اقتصادي جديد يسمى “اقتصاد الرفاهة”. يشمل اقتصاد الرفاهة مجموعة متنوعة من الأفكار والإجراءات التي تهدف إلى تعزيز الرفاهة الاجتماعية من خلال هياكل حوكمة تدعم العيش الآمن وتلبي الاحتياجات الإنسانية الأساسية. يوفر اقتصاد الرفاهة للناس فرصاً متساوية للتقدم والشعور بالاندماج الاجتماعي والاستقرار، ويسهم ذلك في تعزيز قدرات الإنسان، والأهم أنه يحافظ على الانسجام مع عالم الطبيعة ويدعمه. ويهدف إلى خدمة الناس والمجتمعات أولاً وقبل كل شيء، ويوفر طريقاً واعداً نحو مزيد من الرفاهة الاجتماعية والصحة البيئية.

حدود النمو الاقتصادي

على مدى السنوات الأربعين الماضية، أدى النشاط البشري وإعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي على عوامل مثل المساواة والتعليم والصحة والعلاقات الاجتماعية إلى استنفاد الموارد الطبيعية للأرض بشكل أسرع من قدرتها على التجديد. وفقاً لمؤشر الكوكب الحي (Living Planet Index)، يستمر التنوع البيولوجي على كوكب الأرض في التدهور، في حين تتفاقم حالات الجفاف وحرائق الغابات ودرجات الحرارة الشديدة الارتفاع. ولهذا التدهور البيئي تأثير عميق على صحة سكان العالم وأمنهم الاقتصادي. على سبيل المثال، ثمة ما يقدّر بنحو 7 ملايين حالة وفاة مرتبطة بارتفاع مستويات تلوث الهواء كل عام، وبحلول عام 2030، سيعيش ما بين 68 مليون إلى 132 مليون شخص في ظل الفقر كنتيجة مباشرة للتغير المناخي.

يستخدم النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد مقاييس مثل الناتج المحلي الإجمالي لقياس نجاح المجتمعات، في حين يتجاهل في كثير من الأحيان التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وتأثيراتها على الصحة والرفاهة العالمية. ووفقاً لتقرير عدم المساواة في العالم لعام 2018، تفاقمت مشكلة عدم المساواة في الدخل بحدّة على المستوى العالمي منذ عام 1980. ويقدّر التقرير نفسه أنه على الرغم من ارتفاع متوسط الدخل للنصف الأفقر من سكان العالم خلال العقود الماضية، فقد حصلوا على دخل يعادل نصف دخل أغنى 1% من سكان العالم. كما يستمر عدم المساواة بين الرجل والمرأة على مستوى العالم، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن النساء يكسبن أقل من الرجال بنسبة 16% في المتوسط على مستوى العالم.

لعدم المساواة الاقتصادية ضرر بالغ بالمجتمعات؛ ويمكن أن يفاقم مشكلات القلق والمرض ويؤجج الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. أدت جائحة كوفيد-19 إلى تفاقم المشكلات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ودفعت بعض الحكومات إلى إعادة التفكير في تعريف المجتمع الصحي والمزدهر وإعادة النظر في الطرق التي يمكن بها للاقتصاد أن يدعم قدراً أكبر من الرفاهة العالمية.

3 مبادئ لاقتصاد الرفاهة

يدرك اقتصاد الرفاهة أن الناس تحتاج إلى استعادة علاقة متناغمة بين المجتمع والطبيعة، والتوزيع العادل للموارد، والعيش في مجتمعات صحية وقادرة على التحمل، وقد بدأت هذه الأفكار بالظهور في السياسات الفردية للعديد من البلدان.

1. استعادة علاقة متناغمة بين المجتمع والطبيعة

إن اقتصاد الرفاهة لا يدعم نوعية الحياة للجميع فحسب، بما فيها الصحة البدنية والعقلية الجيدة، والقدرة على تحقيق التطلعات، بل يدعم استدامة الكوكب أيضاً. الطبيعة أساس المجتمع الصحي والمزدهر، فهي المورد لتلبية احتياجات الاستهلاك والنظام الذي نعيش فيه.

تقدم كوستاريكا مثالاً على البلدان التي تنفذ سياسات تهدف إلى استعادة علاقة المجتمع بالبيئة، وهي تُصنف بين البلدان الأفضل أداءً في مؤشر التقدم الاجتماعي. كوستاريكا هي الدولة الاستوائية الوحيدة التي تمكنت من إيقاف إزالة الغابات وإعادة زراعتها، وقد التزمت بمواءمة أولوياتها الوطنية مع العمل المناخي العالمي من خلال تحديد الحياد الكربوني هدفاً لها بحلول عام 2050. وتتضمن خطتها الوطنية لتخفيض الكربون استراتيجيات لجميع قطاعات الاقتصاد، بما فيها النقل العام والخاص والطاقة والصناعة والنفايات والزراعة. وفي عام 2018، أنتجت البلاد 98% من الكهرباء من مصادر متجددة للعام الرابع على التوالي، وتهدف إلى الوصول إلى 100% بحلول عام 2030.

2. ضمان التوزيع العادل للموارد لمعالجة عدم المساواة الاقتصادية

يشمل تطوير اقتصاد الرفاهة العديد من جوانب المجتمع، بما فيها الأمن الاقتصادي والأمان والصحة والحالة الاجتماعية. تحقق البلدان التي تتمتع بمستويات عالية من الرفاهة قدراً كبيراً من المساواة بين المجموعات السكانية وقدراً قليلاً من السكان الذين يعيشون في حالة حرمان.

في السنوات الأخيرة وبفضل العمل الجماعي، والنية السياسية، والسياسات مثل التشريعات، والميزانية، وتخصيص الحصص للنساء، احتلت آيسلندا المرتبة الأولى عالمياً في المساواة بين الرجل والمرأة، وفقاً لمؤشر الفجوة العالمية بين الرجل والمرأة التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي. إذ يتألف مجلس الوزراء الآيسلندي من 5 نساء و6 رجال، بينما المعدل العالمي هو امرأة واحدة من بين كل 5 وزراء. ويتجلى ذلك أيضاً في سياسة الأبوة في البلاد، إذ يحصل كل من الرجال والنساء على إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر (لا يمكن نقلها إلى الوالد الآخر)، وفي إصدار شهادة المساواة في الأجر التي تعتمد على نظام إدارة المساواة في الأجر الذي يحظر ممارسات التمييز بين الرجل والمرأة في مكان العمل.

3. دعم صحة الأفراد والمجتمعات وقدرتهم على التحمل

في اقتصاد الرفاهة الناجح، يعيش الجميع بكرامة، ويتمتعون بمشاعر الارتباط والانتماء، ويتفاعلون بنشاط مع مجتمعاتهم. يتمتع الناس بفرص متساوية في الوصول إلى الوسائل التي تدعم احتياجاتهم الإنسانية الأساسية، بما فيها وسائل دعم الرفاهة الجسدية والنفسية والعاطفية والاجتماعية والروحية. إن البلدان التي تدرك العلاقة بين الرفاهة الفردية والجماعية والدور الذي يؤديه الاقتصاد في تعزيز الرفاهة، تعمل على تنفيذ سياسات تدعم ظروف السكن المرضية، والأمان، والعلاقات القوية داخل المجتمعات، والثقة بالسياسة.

وفقاً لنسخة 2019 من مؤشر الحياة الأفضل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تحتل كندا مرتبة أعلى من المتوسط في التدابير المتعلقة بالإسكان والأمان الشخصي والعلاقات الاجتماعية والمشاركة المدنية والتوازن بين العمل والحياة. وقد حققت ذلك جزئياً من خلال تقييد عدد الساعات العمل اليومية والأسبوعية، وشروط دفع أجور وقت العمل الإضافي. على سبيل المثال، تنفذ كندا سياسات تشجع ممارسات العمل الداعمة والمرنة، مثل برنامج روضة الأطفال ليوم كامل، الذي يشجع المدارس على تقديم برامج قبل المدرسة وبعدها لرعاية الأطفال، التي توفر للآباء مرونة كبيرة في التزاماتهم. وفي الوقت نفسه، يرى 93% من الكنديين أنهم يمتلكون شبكة اجتماعية قوية، ويُبلغون عن مستويات عالية من الرضا عن الحياة، وهو مقياس يُحدد عبر تقييم الناس لحياتهم ككل.

دمج الرفاهة الجماعية على نطاق واسع

تذهب بعض الحكومات إلى ما هو أبعد من السياسات والممارسات المنفردة الموصوفة أعلاه، وتتبنى نهجاً شاملاً في اتخاذ القرار من أجل تطوير اقتصادات الرفاهة. ويتجلى ذلك في أطر السياسات الوطنية التي تفرض التعاون بين الإدارات الحكومية والهيئات العامة، وتجعل الرفاهة أساس القرارات المتعلقة بالميزانية، وتقدم مؤشرات للرخاء غير الناتج المحلي الإجمالي. تضع هذه المبادرات الواسعة النطاق الرفاهة الجماعية في قلب عملية صنع السياسات الاقتصادية، وتسمح لواضعي السياسات بتحديد أهداف وغايات تركز بشكل واضح على تعزيز الرفاهة.

في ضوء الدور التحفيزي الذي يمكن أن يؤديه الاقتصاد في بناء مجتمعات صحية، اجتمعت الحكومات الوطنية والإقليمية في اسكتلندا وآيسلندا ونيوزيلندا في منتدى الرفاهة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2018 وشكلت شراكة حكومات اقتصاد الرفاهة Wellbeing Economy Governments (WEGo))، وانضمت إليها ويلز في أبريل/نيسان 2020. وتهدف الشراكة إلى تبادل الخبرات والممارسات السياسية التي يمكن نقلها لتعزيز الطموح المشترك لبناء اقتصاد الرفاهة.

حتى قبل انعقاد المؤتمر، كانت هذه الحكومات تحرز تقدماً نحو ترسيخ الرفاهة في السياسة الوطنية على نطاق واسع. على سبيل المثال، أطلقت ويلز قانون رفاهة أجيال المستقبل في عام 2015، بهدف تحسين الرفاهة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية في البلاد. يُلزم القانون الهيئات العامة بالتعاون معاً ومع المواطنين والمجتمعات المحلية لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية مثل الفقر والتغير المناخي. ويطلب من الهيئات العامة العمل على تحقيق جميع الأهداف المحددة، ويدعمها بمندوبين لتحقيق تأثير طويل المدى.

يهدف إطار الأداء الوطني في اسكتلندا، الذي أُطلق في عام 2007 وتمت مراجعته في عام 2018، إلى إنشاء “دولة ناجحة مع توفير الفرص لجميع الاسكتلنديين للازدهار من خلال زيادة الرفاهة والنمو الاقتصادي المستدام والشامل”. ويوضح الإطار التحولَ نحو كل من التقدم الواسع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من خلال تحديد 11 من النتائج الوطنية المرجوة؛ وتشمل الوصول إلى مجتمعات شاملة ومتمكنة وقوية وآمنة، والحد من الفقر من خلال تقاسم الفرص والثروة والسلطة على نحو عادل. ولقياس التقدم نحو تحقيق هذه النتائج، قدمت الحكومة مجموعة تتألف من 81 مؤشراً، بما فيها الشعور بالوحدة، والمسؤولية عن المجتمع، وانعدام الأمن الغذائي، وعدم المساواة في الثروة.

وفي أبريل/نيسان 2020، وافقت الحكومة الآيسلندية على إطار عمل مكون من 39 مؤشراً لتقييم رفاهة البلاد، مع التركيز على العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وتشمل المؤشرات الثقة بالسياسة، والصحة النفسية، والرضا الوظيفي، والتوازن بين العمل والحياة، والعدالة البيئية والعدالة الاجتماعية. وتعمل الحكومة مع مكتب الإحصاء الوطني لجمع البيانات ورصد المؤشرات على أساس منتظم، بهدف توجيه سياسة الحكومة وخطتها الاستراتيجية المالية الخمسية.

وفي الوقت نفسه، تضع ميزانية الرفاهة الأولى التي قدمتها نيوزيلندا في عام 2019 رفاهة المواطنين والاستدامة البيئية في صميم قرارات الميزانية العامة. واستناداً إلى بيانات مستويات المعيشة والمشورة المقدمة من خبراء حكوميين، تأخذ الميزانية في الحسبان العوامل الاجتماعية والبيئية، ونوعية النشاط الاقتصادي، والأثر الطويل الأجل للسياسات الحالية. تتطلب الميزانية أن تعمل الإدارات الحكومية على دعم الرفاهتين الجسدية والنفسية للمجتمعات، وخلق فرص للانتقال العادل إلى اقتصاد مستدام ومقاوم لتأثيرات المناخ، وتحسين مستويات المعيشة للسكان الأصليين، والحد من فقر الأطفال، ومعالجة العنف المنزلي وتقديم الدعم للوصول إلى دولة مزدهرة من خلال الابتكار.

من خلال إعادة تحديد أهداف السياسة والمجتمع والشركات وتوقعاتها، تستطيع البلدان تحويل الاقتصاد التقليدي الذي يركز على النمو الاقتصادي إلى اقتصاد يبني ويحافظ على عالم صحي ومزدهر. كما توضح الأمثلة أعلاه، فإن لواضعي السياسات دوراً حيوياً. إذ يتعين على قادة الحكومات أن ينفتحوا على طرق جديدة في التفكير وأن يلتزموا بابتكار الأنظمة على نطاق واسع، وذلك باستخدام مبادئ اقتصاد الرفاهة لكي تدلهم على السبيل.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.