عندما تنحّى "دونالد فيشر" (Donald Fisher) عن منصبه كرئيس تنفيذي لشركة "غاب" (Gap) للملابس في أواخر التسعينيات، قرّر وزوجته "دوريس" (Doris) مواجهة أحد أصعب التحديات الاجتماعية في الولايات المتحدة، وهي تحسين التعليم العام. تعرّفا على برنامج "المعرفة قوة" (Knowledge Is Power. KIPP) ؛ وهو شبكة من المدارس تتيح التعليم المجاني في المجتمعات الضعيفة بأميركا، وكان يتألف حينها من مدرستين متوسطتين فقط، لكن "فيشر" قدّم منحاً بقيمة 15 مليون دولار على مدار ثلاث سنوات ساهمت في دفع حركة المدارس المستقلة إلى الأمام، وتوّسع البرنامج ليضم 183 مدرسة.
شجّع "فيشر" المانحين على دعم و"تمويل المشاريع الخيرية" التي تُعزز الاستدامة في المجتمع؛ إذ اعتبر 60% من المانحين الأميركيين الملتزمين بـ "تعهد العطاء" (Giving Pledge)، أن هدفهم الخيري الأساسي مرتبط بالتغير الاجتماعي مثل القضاء على التفاوتات في الرعاية الصحية أو توفير فرص تعليمية أفضل للأشخاص المحتاجين.
ربط العمل الخيري بالاستدامة
تصدّرت الأمم المتحدة عناوين الأخبار حول العالم في سبتمبر/أيلول عام 2015 عندما تبنّت مجموعة طموحة من 17 هدفاً للتنمية المستدامة (SDGs)؛ بهدف الحد من الفقر وحماية الكوكب وتطوير الرعاية الصحية بحلول عام 2030، ويتطلب تحقيق هذه الأهداف تمويلاً بقيمة 2.5 تريليون دولار سنوياً إلى جانب ما تنفقه الحكومة والشركات والمؤسسات الخيرية. على الرغم من تحمل الحكومة والشركات العبء المالي الأكبر، فإنهما لا يستطيعان تحقيق هذه الأهداف بمفردهما، لا بد أن يؤدي العمل الخيري دوره الحاسم ليس في جذب الأموال فحسب، بل في الابتكار والتفكير الاستراتيجي والتعاون.
في هذا الإطار، عملت الباحثة السعودية "غادة بنت عبد الرحمن الطريف" على دراسة بعنوان: "إسهام برامج العمل الخيري في تحقيق التنمية المستدامة" للتعرف إلى دور برامج العمل الخيري المستدام بالجمعيات في تحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، والمعوقات التي تواجهها وتحدّ من قدرتها على تحقيق أهدافها.
تَركَز اهتمام الجمعيات الخيرية في المملكة على البعد الاقتصادي للتنمية، وبحسب الدراسة السعودية التي طُبقت على 226 من العاملين في الجمعيات الخيرية؛ تمثلت المعوقات الخاصة بالمستفيدين في الاعتماد على المساعدات المادية وعدم الرغبة في العمل، فضلاً عن انتشار الأمية وتراجع مستوى الوعي بأهمية التدريب والتأهيل، أما المعوقات على مستوى مؤسسات العمل الخيري؛ فتجّلت في التركيز على الدور التقليدي عبر تقديم دعم مادي وعيني فقط للمستفيدين.
بهدف الربط بين العمل الخيري والتنمية المستدامة؛ أوصت الباحثة السعودية الطريف، بأهمية تطوير برامج مؤسسات العمل الخيري لتساهم في تنمية قدرات المستفيدين حتى يعتمدوا على أنفسهم، وبالتعاون بين مؤسسات العمل الخيري والقطاع الخاص، والاستعانة بالمقاييس والمؤشرات التخطيطية في تحديد الفئات الأكثر إلحاحاً للاستفادة من الخدمات، وتقديم البرامج المتنوعة لجذب المستفيدين وتنمية دوافعهم للالتحاق بالعمل، وتنمية مستوى وعي المستفيدين بخدمات الجمعيات الخيرية، وتوفير الدعم المادي المتوفر لاستمرارية الأنشطة الإنسانية.
أهمية التنمية المستدامة في العمل الخيري
تُعد التنمية المستدامة قضية العصر، وعملية متكاملة تتطلب تجميع المهارات والاختصاصات والقدرات المختلفة للعمل في مشروعاتها، وحشد الجهود الحكومية والأهلية المبذولة لإحداث التغيير وتطوير الخدمات المجتمعية وضمان عدالة توزيعها، وتؤدي الجمعيات الخيرية دوراً حيوياً في تطوير هذه البرامج للتأثير في حياة المحتاجين؛ إذ أكدت دراسة مصرية بعنوان: "دور الجمعيات الأهلية في تحقيق التنمية البشرية في مصر" وجود تأثير لدور الجمعيات الأهلية في تحقيق التنمية البشرية في مصر، فيما كشفت عن أن المؤسسات الأهلية لا تقدم مساعدات كافية لإقامة مشاريع صغيرة.
تؤدي المؤسسات الخيرية دوراً بارزاً في دعم أجندة التنمية المستدامة عبر دمج أهداف التنمية المستدامة في البرامج والمشاريع الخاصة بهم، ومن خلال عمل القيادات الفكرية لمنصات التمويل الجماعي كمحركات للتأثير وتحفيز التغيير عن طريق الرهانات الكبيرة والشراكات، فإنهم يظهرون استعداداً أكبر لاختبار الأفكار الجديدة، واعتماد مناهج مبتكرة، وتشكيل تحالفات جديدة. وتقدم مؤسسة "خطة العمل العالمية" (Global Action Plan) البريطانية لتعزيز السلوك المستدام نموذجاً جيداً لتوظيف أهداف التنمية المستدامة في المشروعات الخيرية.
لم تفكر المؤسسة مطلقاً في ربط المساواة بين الجنسين أو التكامل الاجتماعي بمشاريع توفير المياه؛ لكن أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وسعّت آفاقها، على سبيل المثال، وضع فريق من المنسقين الشباب لبرنامج توفير المياه مخططاً لإعادة تدوير النفايات الكهربائية، فيما استخدم فريق آخر موضوع المياه لدمج المهاجرين الجدد في فصولهم. ومن هنا، فقد استكشفوا العلاقة بين الثقافات المختلفة والمياه وتأثير الحصول على المياه في التعليم والمساواة بين الجنسين؛ فإذا كان على الفتيات السير في رحلة ذهاباً وإياباً مدتها أربع ساعات لجلب المياه؛ لن يتبقى لديهن مُتسع من الوقت للتعلُم، وبالتالي اعتبر الفريق أن المساواة بين الجنسين أو التكامل الاجتماعي جزءاً من مشاريع توفير المياه.
عندما ناقشت إدارة مؤسسة "خطة العمل العالمية" ما تعنيه أهداف التنمية المستدامة بالنسبة لها، كانت الاستجابة متنوعة؛ إذ عبّر مدير تسويق عن قلقه حول التعقيدات المرتبطة بتوظيف أهداف التنمية المستدامة جنباً إلى جنب مع الرسالة الأساسية للمؤسسة، فيما تحدّث قادة المشاريع عن أهداف التنمية المستدامة الأكثر صلة بعملهم فقط، لكن بصورة عامة، يمكن أن تساعد أهداف التنمية المستدامة في تحديد الطريقة التي تجعل حملات المؤسسات الخيرية أكثر إبداعاً، على سبيل المثال، يمكن أن تركز حملة للإغاثة من المجاعة على تذكير الناس بأن خياراتهم الشرائية تؤثر في توافر الغذاء المحلي، كما تُمكن التنمية المستدامة مقدمّي المنح من معرفة مدى فعالية البرامج واستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية للشركات وأولويات المساعدة الحكومية الخارجية. لكن ما الذي يحول دون دمج أهداف التنمية المستدامة في العمل الخيري؟
تحديات مساهمة المؤسسات الخيرية في التنمية المستدامة
تم اعتماد إطار عالمي على نطاق واسع عبر القطاعات المختلفة لمواجهة تحديات العصر الحالي، ومفتاح نجاح تحقيق التنمية المستدامة هو التعاون عبر القطاعات. لسوء الحظ، تُخاطر سياسة الأمن القومي مثلاً بتقويض هذا التعاون عبر القطاعات وقدرة المؤسسات غير الربحية على المساهمة في تحقيق الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة المتمثل في تعزيز المجتمعات السلمية وتحقيق العدالة وبناء المؤسسات الفاعلة والخاضعة للمساءلة.
على الرغم من أن رئيس أميركا الأسبق "جورج دبليو بوش" صرّح ذات مرة أن: "المال شريان الحياة للإرهاب" وشن حرباً على هذه الظاهرة، إلا أنه بعد 20 عاماً من التدخل العنيف لوقف الإرهاب، لم يعد العالم أكثر أماناً مما كان عليه في عام 2001. واليوم، يدرك السياسيون أهمية سن التشريعات المناسبة وأقروا مشاريع قوانين مثل "قانون الهشاشة العالمي" (Global Fragility Act) عام 2019 لمعالجة الأسباب الجذرية للإرهاب، لكن من جهة أخرى، يجب فهم أهمية المؤسسات غير الربحية في تطبيق هذا القانون، وتعليم الشباب في مناطق النزاع حتى لا يقعوا ضحية التطرف وينشأ جيل آخر على العنف؛ لذا يجب الاستفادة من الثقة والعلاقات التي تتمتع بها تلك المؤسسات في المجتمعات المحلية، لأن الحكومات في أغلب الأحيان، لا تمتلك المعرفة بالعادات والثقافة المحلية، ولا تتمتع بالثقة والتواصل الفعّال بالسكان المحليين لفهم القضايا المجتمعية على نحوٍ أعمق.
يتطلب تسريع التقدم في قضايا اجتماعية محددة، مثل الإيدز للأطفال أو التعليم الجيد، إجراء دراسات حول أشكال العمل الخيري الأكثر ملائمة لتحقيق ذلك، وأشارت رئيس مؤسسة "الأمم المتحدة" ومديرها التنفيذي كاثي كالفن (Kathy Calvin) إلى أن عدم كفاية البيانات يشكل عائقاً أمام إحراز تقدم أسرع في أهداف التنمية المستدامة، إذ لا تتوفر بحوث كافية حول وجهات أموال التبرع أو أثر تمويل المشاريع الخيرية على المجتمع. وفي السياق ذاته، رصدت دراسة سعودية بعنوان: "جهود المؤسسات الخيرية المانحة في تنمية المجتمع المحلي"، ضعف الدراسات العلمية لتحديد الاحتياجات المجتمعية وندرة قواعد البيانات عن الجهات الخيرية، ما يتطلب تفعيل دور القطاع الحكومي لتزويد المؤسسات الخيرية المانحة بالمعلومات اللازمة وتحديثها.
بالمحصلة، يمكن ربط العمل الخيري بالتنمية المستدامة عبر التخطيط للأنشطة والبرامج التي تستهدف الارتقاء بحياة الإنسان وإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع.
هذا المقال نُشر بناءً على أبحاث من منصة "ساهم"