3 مرتكزات نظرية لعلم التأثير الاجتماعي

علم التأثير الاجتماعي
الشكل التوضيحي لهوجو هيريرا (Hugo Herrera)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تخيل لو لم يعد يحتاج قادة المؤسسات غير الربحية وأصحاب المؤسسات الخيرية وصانعو السياسات إلى الاعتماد على التخمين والظن لمعرفة مدى نجاح مشاريعهم، بل الوثوق بالنجاح بناءً على اليقين العلمي، وذلك بفضل علم التأثير الاجتماعي.

تطلّع خبراء الاقتصاد وواضعو السياسات والباحثون إلى “تقوية” العلوم الاجتماعية على مدى القرنين الماضيين. وقد تم إحراز الكثير من التقدم في هذا المجال عبر التجارب المنضبطة باستخدام عيّنات عشوائية واتخاذ قرارات “مستندة إلى أدلة” وإصدار بيانات دقيقة، لكن ثمة قيود على تطور هذا المجال لكي يصبح “علماً حقيقياً” يتسم بقابلية التعميم والتكرار والتنبؤ.

ولهذا العلم بالغ الأهمية في مجالات التأثير الاجتماعي إذ نحتاج إلى أدلة لاتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات والتمويل ووضع البرامج حتى نتمكن من حل المشكلات المستعصية. وبناءً على الحجم الهائل للأبحاث المنشورة في هذا المجال، قد يعتقد أحدهم أننا نملك ما يكفي من الأدلة، فهناك 5.7 ملايين دراسة منشورة حول “تغيير السلوك” وفقاً لجوجل سكولر (Google Scholar). كما يحتوي موقع سوشال ساينس ريسيرتش نيتورك (Social Science Research Network) على 1.7 مليون دراسة. لكن نشر المقالات والدراسات لا يفضي بالضرورة إلى الحصول على المعرفة أو التغيير في الممارسات.

وبالرغم من الكم الهائل من الأبحاث لا يبدو أننا نتقدم قيد أنملة. بالنظر إلى حجم الإنفاق في قطاع التأثير الاجتماعي؛ بما في ذلك الأعمال الخيرية الحكومية والعالمية والمحلية وما يخص التأثير الاجتماعي في عمليات الحوكمة البيئية والاجتماعية الجارية؛ نجد أننا ننفق على المستوى العالمي مبلغاً ضخماً من المال يقرب من 72 تريليون دولار سنوياً، ما يجعل سوق الإنفاق الاجتماعي أضخم سوق مالي في العالم. وعلى الرغم من ذلك حقق العالم تحسناً بنسبة 3% فقط من أهداف التنمية المستدامة منذ عام 2014 وفقاً لتقارير للأمم المتحدة.

لماذا لا نستطيع توظيف الكم الهائل من الأدلة المتوفرة في تحسين مستوى الحياة؟ في الواقع من الصعب جداً معالجة تلك المعلومات وتوظيفها. انتقد عالم الاجتماع دنكان واتس (Duncan Watts) الذي يعمل لدى مؤسسة مايكروسوفت ريسيرتش (Microsoft Research)، ما سماه “مشكلة عدم الاتساق” في العلوم الاجتماعية وذلك في مقال له في عدد يناير/كانون الثاني 2017 من مجلة نيتشر هيومن بيهايفيار (Nature Human Behavior).

حيث ذكر أننا: “نقرأ العديد من التقارير والدراسات التي تحمل نفس الكلمات في عناوينها ولكن مع تحليلات مختلفة، ومفاهيم نظرية مختلفة، وربط مختلف تماماً بين النتائج والأسباب. ولن تعرف تماماً ما تعنيه العبارات والمصطلحات عند قراءة أحد هذه التقارير. وليست المشكلة هنا بتطبيق فرضيات معينة، المشكلة أن هذه الفرضيات غير مفهومة”.

كما طرح آخرون نقاطاً مماثلة في سياق الممارسات المستندة إلى الأدلة، مشيرين إلى مدى صعوبة استخدام هذه الأدلة للتنبؤ بالنجاح. في عام 2014، كتب مدير مكتب أبحاث العلوم السلوكية والاجتماعية في المعاهد الوطنية للصحة (NIH) ويليام رايلي (William Riley) بالتعاون مع الأستاذ في جامعة ولاية أريزونا (Arizona State University) دانييل ريفيرا (Daniel Rivera) مقالاً ذكرا فيه: “أثبتت الدراسات المكثفة فعالية التدخلات التي تهدف إلى تغيير السلوك في مجموعة من الحالات ولكن غالباً ما تفشل هذه الدراسات في فرز مكونات هذه التدخلات إلى مكونات ذات فعالية عالية ومنخفضة. لذلك يسيطر الغموض على عملية بلورة هذه التدخلات إلى حد كبير ولا تتعدى كونها عملية تخمينات مدروسة”.

ويصف محلل ميتا البارز في التأثير الاجتماعي المشكلة بطريقة أخرى: “إن التحدي الحقيقي ليس الافتقار إلى معرفة ما المفيد، بل في تحويل مجموعة المعارف المفيدة إلى ممارسة”. ويوضح ذلك بعض العقبات الرئيسة في هذا المجال، فمن الصعب تقديم فرضيات قابلة للتعميم حول “ما يفيد”، ومن الصعب أيضاً معرفة سبب النجاح وكيفية الاستفادة منه.

كيف يمكننا البدء باستخدام المعارف التي نملكها لتحسين مستوى الحياة؟ تمثل الإجابة عن هذا السؤال أهداف مجال جديد ندعوه علم التأثير الاجتماعي.

ما الذي يعيق تقدمنا؟

بدعم من بعض الممولين ذوي التفكير الاستشرافي مثل مؤسسات جوجل دوت أورغ (Google.org) وسبلانك فور غود (Splunk for Good) وماستر كارد سينتر فور إنكلوسيف غروث (MasterCard Center for Inclusive Growth)، أُطلقت مبادرة إيمباكت جينوم بروجيكت (Impact Genome Project) وهي مبادرة بين القطاعين العام والخاص تركز على إنشاء مقاييس موضوعية للتأثير الاجتماعي وترسم ملامح هذا المجال الجديد المسمى بعلم التأثير الاجتماعي معتمدة على باحثي التأثير الاجتماعي وخبراء التقييم وعلماء البيانات وواضعي السياسات وأصحاب الأعمال الخيرية. وبدأنا بالبحث عن إجابات عن الأسئلة الآتية:

  • ما المبادئ الأساسية لعلم التأثير الاجتماعي؟
  • ما أهم التحديات النظرية والعملية في هذا المجال؟
  • ما الأطراف الرئيسية في هذا المجال؟

حددنا أكثر من 130 جهة تسعى لتنمية التأثير الاجتماعي، وتشمل خبراء تقييم برامج، ومتخصصين بالاقتصاد القياسي، وباحثين أكاديميين، ومتخصصين في تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي، وخبراء إحصاء وخبراء علوم التنفيذ ومحللي ميتا وغيرهم. كما حددنا أربع عقبات تعيق تقدمنا:

  1. عدم وجود مصطلحات عالمية موحدة، ما يؤدي إلى بعثرة الأدلة وعدم اتساقها.
  2. عدم وجود مخازن مركزية تحتوي على بيانات منظمة و”دقيقة”.
  3. الافتقار إلى حوافز تسويق تدفع المال مقابل استخدام البيانات التي يصعب استخدامها في الميدان بهدف الاعتماد عليها في عملية اتخاذ القرارات.
  4. توافق أكاديمي على أولوية دراسة الحالات الفردية المحدودة باستخدام طرق تم تطويرها لخدمة الأبحاث التجريبية بدلاً من أولوية التقييمات الأكثر عملية، وقد تكون هذه التقييمات أقل جودة لكنها تكشف الظروف الواقعية على نحو أفضل.

تحد هذه العقبات من قدرة هذا المجال على التعامل مع المعارف التي نملكها على نحو “علمي” إلى حد كبير. ويحد ذلك بدوره من قدرة العلوم الاجتماعية على تعميم النتائج وبالتالي القدرة على التنبؤ بها. ونتيجة لذلك لا يكون بوسع واضعي السياسات إلا الاعتماد على قوائم البرامج النموذجية التي تم تقييمها مسبّقاً والتي تعتبر “مستندة إلى الأدلة”. وذلك النهج يقيد الكم الهائل من الخيارات أمام واضعي السياسات ولا يساعدنا على معرفة سبب نجاح بعض البرامج وفشل بعضها الآخر. وعواقب ذلك موجودة أمامنا حيث يقدر بعض الخبراء أن أقل من 1% من إنفاق الحكومة الأميركية على برامج الخدمات الإنسانية يعتمد على “أدلة على التأثير الفعلي”.

ويشكل مواجهة تلك التحديات طموح علم التأثير الاجتماعي.

ما علم التأثير الاجتماعي؟

إن مجال علم التأثير الاجتماعي متعدد التخصصات ويستند إلى معرفتنا الحالية من خلال تنظيمها بدقة أكبر وعبر هيكلية أفضل. حيث يستخدم علم التأثير الاجتماعي البيانات المنظمة والنماذج الاحتمالية للتنبؤ بفعالية التدخلات الاجتماعية للوصول إلى تصميم أكثر فعالية، بطريقة مشابهة لاستخدام الاقتصاد القياسي للإحصاءات والنمذجة للتنبؤ بالنتائج التي بدورها توجه السياسات التي تهدف إلى تحقيق نتائج اقتصادية أفضل. وباستخدام البيانات على هذا النحو يمكن للمختصين في التأثير الاجتماعي تحسين تصميم البرنامج بشكل جذري واتخاذ قرارات مدروسة حول تخصيص الموارد، وبالتالي تحسين حياة الكثير من الناس مقابل نفس القدر من المال أو ربما أقل.

كما حددنا ثلاثة مرتكزات نظرية لعلم التأثير الاجتماعي، هي توحيد البيانات، ومنهجيات التجميع والتركيب، والتنبؤ والمطابقة والقياس المعياري.

1. توحيد البيانات

يمثل الافتقار إلى البيانات الموحدة العقبة الأساسية التي تعيق تقدمنا في هذا المجال. لا يوجد جدول دوري لعناصر التغيير الاجتماعي، ولا توجد جينات أو كروموسومات مشتركة لتسلسل الحمض النووي للتدخلات الاجتماعية، ولا توجد مصطلحات عالمية لعناصر البرامج الاجتماعية. ومن دون ذلك لن تكون أبحاث التأثير الاجتماعي إلا مجموعة من ملفات البي دي إف الموثقة على نحو جيد. كتب عالم الأنثروبولوجيا الذي يعمل في وزارة الدفاع الأميركية آدم راسل (Adam Russell) في مقال لمجلة وايرد (Wired) في عام 2017: “في المجالات الناشئة، تعد بلورة المعايير إشارة جيدة على حدوث شيء مهم، وبالتأكيد ليس لدينا تلك المعايير في العلوم الاجتماعية”.

ولهذا السبب ينشئ الباحثون وخبراء التقييم المصطلحات أو أطر العمل بشكل منفصل، ما يؤدي إلى عدم الاتساق عبر الدراسات المتعددة. ويعد تحديد عناصر البيانات في القطاع الاجتماعي بطريقة موحدة خطوة أساسية ومطلوبة في علم التأثير الاجتماعي لأنه يسمح بإنشاء مجموعات بيانات كبيرة تحتوي على أدلة تتعلق بمكونات البرامج وعمليات التنفيذ والسياقات والمستفيدين والنتائج. وعلى الرغم من وجود مجموعات كبيرة من البيانات سلفاً في هذا القطاع، فإن الاختلاف هنا يتمثل بالقدرة على جمع الأدلة من مصادر متعددة، بما في ذلك تقييمات البحث والسياسات والبرامج.

وهناك بعض الجهود القائمة لتوحيد العناصر الأساسية للتأثير الاجتماعي، مثل النماذج المنطقية وآليات تغيير السلوك والاستراتيجيات الأخرى. على مدار العشرين عاماً الماضية، أنشأ باحثون رائدون على غرار مارك ليبسي (Mark Lipsey)، وسوزان ميتشي (Susan Mitchie)، وبروس كوربيتا (Bruce Chorpita) وآخرين أطراً لمكونات أساسية لعدة قطاعات مثل قضاء الأحداث والصحة العامة والتعليم. كما دعا آخرون مثل ماري ويغينز (Mary Wiggins) في منتدى استثمار الشباب (Forum for Youth Investment) بالإضافة إلى واضعي السياسات في مكتب مساعد الوزير لشؤون التخطيط والتقييم في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية (Health and Human Services)، إلى استخدام المكونات الأساسية في عملية صناعة القرار الحكومي. يمثل ذلك خطوات مهمة نحو الأمام، لكن المكونات الأساسية ليست سوى حلقة واحدة من سلسلة الحل.

ولتحقيق أقصى استفادة من معارفنا ينبغي توحيد البيانات الأخرى مثل نتائج التأثير الاجتماعي وخصائص المستفيدين وسياق البرامج. ويعد عمل ميتشي في مشروع تغيير السلوك البشري (Human Behaviour Change Project) مثالاً يحتذى به. حيث بلورت ميتشي بالتعاون مع زملائها توصيف التدخل في تغيير السلوك (Behaviour Change Intervention Ontology) وهو عبارة عن مجموعة من التعريفات للكيانات والعلاقات المستخدمة لوصف تدخلات تغيير السلوك وسياقاتها وتأثيراتها وتقييماتها.

كما تعد مبادرتنا البحثية المسماة إيمباكت جينوم بروجيكت (Impact Genome Project) مثالاً آخر على توحيد البيانات. حيث أنشأنا على مدى السنوات السبع الماضية تصنيفات موحدة لـ 132 نتيجة اجتماعية مشتركة والاستراتيجيات المستخدمة لتحقيقها بالإضافة إلى خصائص المستفيدين وسياق البرامج. وتغطي تصنيفاتنا مجموعة واسعة من المجالات مثل الصحة العامة والتعليم وتنمية القوى العاملة والصحة المالية ورأس المال الاجتماعي والإسكان والأمن الغذائي. حيث يسمح هذا التوحيد بإجراء مقارنات بين العناصر المتشابهة في البرامج والدراسات. كما يتيح ذلك تجميع البيانات وتركيبها والتنبؤ بها ومطابقتها وقياسها على نحو معياري عبر عشرات الآلاف من الدراسات البحثية والتقييمات وتقارير المنح.

ويتمثل أحد التحديات الرئيسة لتوحيد القياس المعياري في تحديد اللغة النظرية الصحيحة والمدروسة لجميع المعنيين في هذا القطاع بحيث تكون واضحة المعنى وقابلة للاستخدام بالنسبة لهم. مع وجود العديد من المخاطر في حال لم يتم وضع المعايير بطريقة تكون فيها قادرة على مواكبة تطور المجتمع والعلوم. لكن يمكننا أن نستلهم تجارب القطاعات الأخرى التي نجحت في إنشاء المعايير والحفاظ عليها، على سبيل المثال لا الحصر تصنيف نظام فهرسة المواضيع الطبية في معاهد الصحة الوطنية (NIH MeSH) للمصطلحات الطبية البيولوجية، ومعايير المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا (NIST) لمفاهيم العلوم الفيزيائية، ومعايير بروتوكول الإنترنت.

2. منهجيات التجميع والتركيب

يتيح لنا وجود المعايير القدرة على تطبيقها دوماً على الأدلة والبيانات غير المنظمة. ويسمى ذلك بالترميز في العلوم الاجتماعية؛ أي تطبيق المعايير على مصدر نوعي (نموذجي) واستخراج المعنى الذي يحمله بطريقة منظمة. في علم التأثير الاجتماعي، يمكن لهذه العملية أن تحول أي بيانات غير منظمة مثل تقييمات البرامج وملفات البي دي إف لدراسات التجارب المنضبطة العشوائية وتقارير المنح إلى مجموعات بيانات منظمة ومرمّزة بحيث يمكن استخدامها لتحليل النتائج والمكونات الأساسية للبرامج وخصائص المستفيدين وعوامل السياق. كما طورت قطاعات أخرى مصافي بيانات لجعلها أكثر قيمة وفائدة. وسأستعير التشبيه من مجلة ساينتافيك أميركان (Scientific American)، فعملية التصفية تلك مشابهة لعملية التكرير في مصافي النفط، فالنفط الخام ليس قابلاً للاستخدام، ولكن النفط المكرر قابل للاستخدام بشكل واسع في تطبيقات متعددة.

3. التنبؤ والمطابقة والقياس المعياري

لا تقتصر حدود علم التأثير الاجتماعي على البيانات المنظمة فحسب بل على كيفية استخدامها أيضاً. إذ تدعم البيانات المنظمة عمليات التحليل على نحو كبير على غرار تحليل ميتا والتحليلات التنبؤية والقياس المعياري والمطابقة. تخيل إمكانيات تسخير القدرة التنبؤية للبيانات على نحو دائم باستخدام طرق تم توظيفها بنجاح في قطاعات أخرى مثل التسويق والاقتصاد وحتى الأرصاد الجوية.

هناك عدد من المؤسسات استطعنا تحديد ما يقرب من 30 منها تعمل على تطوير هذه المنهجيات. يبحث مركز غوفلاب (GovLab) في طرق مبتكرة لتشجيع البيانات الحكومية المفتوحة واستخدامها لصناعة القرار في الاقتصادات النامية والعدالة الجنائية وعدة مجالات أخرى. كما يطور محللو ميتا مثل مارك ليبسي (Mark Lipsey) ولاري هيدجز (Larry Hedges) منهجيات جديدة لفهم الروابط بين استراتيجيات البرنامج ونتائجها. فقد أصبحت التحليلات التنبؤية ومحركات التوصية مستخدمة على نطاق واسع لتحسين الدعم الاجتماعي ونتائجه، كما في برامج رعاية الطفل والتخرج الجامعي والرعاية الصحية. وقد عملنا أيضاً في هذا الاتجاه في إيمباكت جينوم بروجيكت. ففي عام 2020، نشرنا أول تحليل ميتا تصنيفي لتدخلات الوقاية من السمنة لدى الأطفال بالتعاون مع باحثين من المعاهد الوطنية للصحة ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها والعديد من الجامعات الرائدة، الذي حدد مكونات التدخلات المتعلقة والمرتبطة بنتائج إيجابية، ولم يشمل التدخلات كلها.

علم التأثير الاجتماعي في الممارسة

عندما تقوم بتطبيق معايير موحدة على حجم كبير من البيانات غير المنظمة وتركبها وتحللها، تصبح الإنجازات غير العادية ممكنة. فقط تخيل القدرة على الآتي:

  • استخدام النماذج الاحتمالية لتقدير التأثير المحتمل لبرامج أو سياسات اجتماعية قبل تمويلها.
  • استخدام المكونات الأساسية للتحديد السريع لمدى اعتماد البرامج على الأدلة.
  • تشكيل البرامج والسياسات على نحو مطابق لاحتياجات المستفيدين ومناسب للسياق المطلوب.
  • القياس المعياري للتدخلات أو مقارنتها من حيث كلفة النتائج.
  • “التحرير الجيني” للبرامج الاجتماعية خلال العمل الميداني عن طريق إضافة المكونات الأساسية أو إزالتها بهدف تحسين التأثير.
  • تحديد الثغرات في قاعدة الأدلة حتى تتمكن من الاستثمار في الأبحاث ذات العائد المرتفع.
  • إنشاء “سجل تأثير” عالمي يُمكّن المؤسسات غير الربحية والباحثين والبرامج الحكومية من الإبلاغ عن نتائجهم باستخدام معايير موحدة.
  • إنشاء “أسواق النتائج”، على غرار أسواق الكربون حيث يمكن للحكومات وأصحاب الأعمال الخيرية “شراء” النتائج مباشرة من المؤسسات غير الربحية.

إليكم مثالاً على آلية عمل علم التأثير عملياً: تخيل أنك ممول يهدف إلى رفع مستوى العدالة الصحية في مجتمعك. فبدلاً من قراءة الدراسات المنشورة عن برامج نموذجية ذات “معايير ذهبية”، ستستخدم سجل التأثير الذي يمثل قاعدة أدلة عالمية للدراسات والبرامج الممولة. حيث يمكنك البحث في السجل لتحديد نوعية البرامج غير الربحية بدقة من خلال النتائج ونوعية المستفيدين واستراتيجيات البرنامج والمنطقة الجغرافية. كما يمكنك العثور على برامج شاملة أو غير مقيّمة التي تعتبر “مسندة إلى الأدلة” لأن تصميم برامجها يعتمد على تحليل ميتا للعديد من الدراسات. ويمكنك تحديد مبالغ الاستثمار عبر برنامج خاص باستخدام مقاييس المعايير المالية التي تقارن البرامج المماثلة بناءً على تكلفة التأثير. كما يمكنك تتبع أداء استثماراتك عبر الزمن ومقارنة تأثيرها وتكاليفها بمقياس معايير القطاع.

الخطوات القادمة لعلم التأثير الاجتماعي.

يمتلك علم التأثير الاجتماعي القدرة على التغيير الشامل لقطاع العمل الخيري والتمويل الحكومي والبحث الأكاديمي وتحليل السياسات العامة وتقييم البرامج والاستشارات الإدارية والاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة، وجمع التبرعات غير الربحي، والعديد من المجالات المشابهة. إذاً كيف نجعله حقيقة؟

كما هو الحال مع أي محاولة رائدة، تبدأ القصة بإنشاء “تحالف من المتحمسين” من أصحاب المصلحة الرئيسيين مثل المتبنين الأوائل من واضعي السياسات والباحثين وخبراء التقييم والممولين وأصحاب الأعمال غير الربحية. والجانب المشرق هنا أن مسارات العمل المختلفة لعلم التأثير الاجتماعي قد بدأت بالفعل من قبل العديد من المؤسسات الأكاديمية والمعنيين في القطاع الاجتماعي. إن تنسيق العمل وتركيزه في هذه المرحلة المبكرة سيؤتي ثماره في المستقبل.

إليكم ثلاث طرق للمضي قدماً في مجال علم التأثير الاجتماعي في وقتنا الحالي:

1. توفير المزيد من الحوافز الإيجابية لاستخدام علم التأثير الاجتماعي.

يعد استخدام الأدلة والبيانات حالياً قراراً تقديرياً خاصاً إلى حد كبير ويعتمد على الاختيار الفردي. والبرامج التي تستخدم البيانات لتحسين فعاليتها أو تأثيرها لا تحصل على مكافآت مالية.  إن وضع الحوافز المالية المناسبة على شكل مكافآت وليس فقط من باب المساءلة يمكن أن يساعد على تسريع عملية التغيير.

وقد لمسنا بعض التقدم التشريعي في هذا المجال على غرار قانون المساءلة الرقمية والشفافية لعام 2014، وقانون أسس وضع السياسات المستندة إلى الأدلة لعام 2018، وقانون كفاءة الإبلاغ عن المنح وشفافية الاتفاقيات لعام 2019. حيث زادت هذه الجهود من أهمية إنشاء بيانات مفتوحة واستخدام الأدلة وتوحيد تقارير المنح. لكن غالبية تشريعات البيانات المفتوحة وعمليات توحيد البيانات تركز على البيانات المالية، وليس بيانات التأثير. نحن بحاجة إلى تشريعات تضفي الطابع المؤسسي على معايير بيانات التأثير، وتتطلب استخدام الأدلة والبيانات لزيادة تأثير المنح والتحقق من تأثير المهام وتقديم التقارير عنها.

كما يمكن تطبيق حوافز مالية مماثلة من قبل حكومة الولاية والحكومة المحلية، وكذلك في مجالات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات والعمل الخيري والاستثمار المؤثر وتمويل السلطات المحلية. ويمكن وضع آليات تمويل مبتكرة أخرى لتحفيز استخدام البيانات بهدف زيادة العوائد، مثل أسواق تداول النتائج، ووضع الميزانيات المستندة إلى النتائج، والمناقصات، ومؤشرات التأثير.

2. إنشاء المزيد من الأدوات المبتكرة حتى يتمكن أصحاب المصالح من استخدام البيانات التنبؤية.

تتمثل إحدى القوى الدافعة الرئيسية في هذا القطاع في توسيع إمكانية الوصول إلى علم التأثير الاجتماعي. يمثل التفاعل المباشر مع بيانات التأثير المعقدة تحدياً لأي شخص خارج الأوساط الأكاديمية حالياً نظراً للخبرة والموارد اللازمة للقدرة على الوصول إليها واستخراجها وتركيبها وتحليلها ومن ثم استخدامها. وهناك الكثير من الموارد المذهلة لغير الأكاديميين التي تلخص معارفنا، ولكن في معظم الحالات لا يمكن تخصيصها بسهولة ودقة كافية لتصبح قابلة للتنفيذ.

ويتمثل الحل في تطوير أدوات ومنصات وتكنولوجيا فعالة تمكن المستخدمين من التفاعل السهل مع البيانات للإجابة عن أسئلتهم المحددة في سياقهم المحدد. على غرار الطريقة التي تستخدمها شركة 23 آند مي (23andme) لتسهيل تحليل الملف الجيني لأي شخص باستخدام مسحة بسيطة من باطن الخد، أو الطريقة التي تسهل بها شركة تيربوتاكس (Turbotax) على أي شخص تحليل ضرائبه باستخدام البرمجيات. أو الطريقة التي تسهل بها شركتا ليكسيس نيكسيس (Lexisnexis) وويستلو (Westlaw) على المحامين العثور بسرعة على أكثر قانون قضائي مطابق للحالة التي يبحثون عنها. نحن بحاجة إلى أدوات بسيطة وسهلة الاستعمال في قطاع العمل الاجتماعي تضع قوة علم التأثير الاجتماعي في أيدي الممارسين العاديين لأعمال هذا القطاع.

كما نحمل مسؤولية في هذا القطاع عن عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبتها القطاعات الأخرى فيما يخص عملية الإصدار الأخلاقي للبيانات واستخدامها وإمكانية الوصول إليها واستخدام الذكاء الاصطناعي وطرق التحليل الأخرى. على سبيل المثال، توصل استقصاء عام 2022 لكبار صانعي القرار في مجال تكنولوجيا المعلومات العالميين لنتيجة مفادها أن 74% لم يخفضوا التحيز غير المقصود في الذكاء الاصطناعي لديهم، و60% لم يبلوروا سياسات أخلاقية للذكاء الاصطناعي. تحقق رافيت دوتان (Ravit Dotan) ومؤسسة وي أول كاونت (We All Count) تقدماً في الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي والبيانات، ما يجب أن يكون في قمة اهتماماتنا جميعاً.

3. المزيد من التركيز الأكاديمي على طرائق علم التأثير الاجتماعي.

لنجاح علم التأثير الاجتماعي، يجب أن يكون لدينا أدلة ذات جودة عالية مقدمة من الباحثين الأكاديميين ومن مقيمي البرامج والمؤسسات غير الربحية العاملة في الميدان. وهناك العديد من الخطوات التي نستطيع تنفيذها في سبيل تقدم هذا القطاع. أولاً، يجب أن تتبنى المؤسسات الرائدة تصنيفاً مشتركاً لنتائج التأثير الاجتماعي ومكوناته الأساسية بحيث يمكن إدخال جميع المعارف الجديدة التي يتم انتجاها بسهولة في قاعدة الأدلة الأوسع. وهذا لا يعني أنه يتعين علينا التخلص من كل ما قمنا به سابقاً حيث لا بد أن تكون هناك طرق لتضمين أطر العمل الحالية في مجموعة من المعايير العالمية. فقد نفذت ستيفاني جونز (Stephanie Jones) من جامعة هارفارد تصنيفاً مشابهاً لعدة مفاهيم مثل الأداء التنفيذي والتعلم الاجتماعي العاطفي. كما يمكن أن تسهل المجلات ذلك المسعى من خلال طلب ترميز موحد لدراسات التأثير الاجتماعي المنشورة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحويل التركيز من الدراسات والتقييمات ذات الصلاحية الداخلية القوية (الدراسة تدعم السبب والنتيجة) إلى تلك التي تتمتع بصلاحية خارجية قوية (إمكانية تعميم النتائج على مواقف أخرى) يمكن أن يساعدنا على الاستفادة بشكل أفضل من الأدلة البحثية عند تطبيقها على أرض الواقع. ويمكن أن تؤدي التطورات المنهجية الإضافية في التركيب والتنبؤ وتحليل ميتا إلى رفع علم التأثير الاجتماعي إلى نفس مستوى تطور العلوم الأخرى.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً