3 مبادئ رئيسة لبناء الثقة الشعبية من خلال الحوكمة التعاونية

الثقة الشعبية
(الرسم التوضيحي: آي ستوك/سمارت بوي10)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على المستوى الوطني، يبدو أن العلاقة بين الشعب الأميركي والحكومة مقطوعة. حيث تراجعت الثقة في الحكومة منذ عقود، وفي أحدث استقصاء أجراه مؤشر إيدلمان حول الثقة (Edelman Trust Barometer) تبين أن 43% فقط من الأميركيين يثقون في حكومتهم “للقيام بما هو صواب”، أي 10% أقل مما كانت عليه النسبة قبل خمس سنوات فقط. بينما يعتقد أكثر من 60% من الناخبين الأميركيين أن البلاد تسير على “المسار الخطأ”، حتى في لحظة الاقتراب من التوظيف الكامل.

تعكس الاستطلاعات قصة قاتمة على المستوى الوطني، ولكننا نجد قصة مختلفة في مدننا وبلداتنا، حيث يوجد مسار غني بتجارب النماذج التعاونية للمشاركة الشعبية، بهدف السماح للأشخاص خارج وداخل الحكومة بالعمل معاً في تصميم السياسة. وهذه هي الحوكمة التعاونية -والتي تُعرف أيضاً باسم “co-governance“- التي تسعى إلى زعزعة الانقسام الفادح بين من هم “في السلطة” ومن هم “خارجها”. كاسم جديد لشيء ما برز في الممارسة العملية على مدى عدة عقود، تعمل الحوكمة التعاونية على تحويل السلطة وبناء الثقة من خلال تمكين المسؤولين الحكوميين والدعاة من رؤية بعضهم البعض كمتعاونين يتمتعون بقدرات ووجهات نظر فريدة تدعم مصالح الآخرين ومواقفهم.

وتتنوع الأمثلة على ذلك من وضع الميزانيات التشاركي -مثل مبادرة الاقتراع التي تمت الموافقة عليها مؤخراً في بوسطن والتي ستساعد في توزيع سلطة وضع الميزانية وإعطاء السكان رأياً أكبر في كيفية إنفاق أموال مدينتهم- إلى إنشاء جمعية المواطنين الدائمة في باريس، ما يسمح للمواطنين الباريسيين “بالمشاركة الحقيقية في وضع السياسات العامة للعاصمة”. وقد ذُكرت هذه التجربة مؤخراً، إلى جانب تجارب أخرى، في تقرير صدر مؤخراً عن برنامج الإصلاح السياسي في أميركا الجديدة وفي عدد خاص منمجلة “ذا فورج” (The Forge). ولكن على الرغم من أن الحوكمة التعاونية هي مفهوم متعدد الأوجه وواسع النطاق، فإن الفكرة في جوهرها بسيطة: رفع المشاركة الشعبية على درجات “سلم مشاركة المواطنين” الذي وضعته شيري أرنستين، وذلك برفع مستوى المشاركة الشعبية من خلال زيادة مستويات المشاركة المستدامة. وهذا ما يميز الحوكمة التعاونية عن غيرها من أشكال صنع القرار الديمقراطي المؤقتة أو الخاصة بقضية معينة: ففي الحالة المثالية، تخلق الحوكمة التعاونية بنى تنظيمية دائمة وعلاقات أكثر مرونة، ما يساعد في النهاية على إنشاء حلقة من ردود الفعل الإيجابية والتي تخلق الثقة بين السكان وصنّاع القرار . وهذا بالطبع لا يعني أن عملية صناعة القرار ليست عُرضة للطعن أو أن المكاسب الفورية تتحقق دائماً، بل يعني أن هناك نماذج أذكى لتحويل السلطة وقنوات لتعميق الاتصال الذي يتطور بالنسبة للسكان مع مرور الوقت.

وإليكم ثلاثة مبادئ رئيسية تُعتَبر جزءاً لا يتجزأ من الحوكمة التعاونية:

1. تمنح الحوكمة التعاونية الأشخاص مقعداً حقيقياً على طاولة الحوار وتُشبع الشعب بسلطة فعلية لصناعة القرار.

تسعى الحوكمة التعاونية إلى إنشاء آليات تؤدي من خلالها المدخلات العامة إلى إحداث تغييرات فعلية. ومع ذلك، يتطلب هذا تجاوز “جلسات الاستماع” المجتمعية السلبية أو القاعات العامة التي يستمع فيها المسؤولون إلى مدخلات الجمهور دون أي التزام مرتبط أو مخصص لتنفيذ أي من توصيات الجمهور. لا يمكن لمن هم في السلطة أن ينظروا إلى المشاركة المجتمعية على أنها مجرد بند على قائمة المهام يجب عليهم إنجازه والانتهاء منه؛ بدلاً من تجميل صورة المشاركة العامة، يجب أن يعملوا على وضع آليات للسيطرة التشاركية الحقيقية من قبل السكان.

يمكن رؤية مثال توضيحي على المشاركة العميقة والمستمرة في الجهود المبذولة لإصلاح السلامة العامة في مدارس ميلووكي العامة (MPS)، بقيادة مؤسسة “ليدرز إغنتينغ ترانسفورميشن” (LIT)، التي أسسها ويديرها شباب من أصحاب البشرة الداكنة والسمراء متأثرون بشكل مباشر بالسياسات التي تضر مجتمعاتهم. وفي سبيل الانخراط بعمق مع مرشحي مجالس إدارة المدرسة في الفترة التي تسبق انتخابات مجلس إدارة المدرسة لعام 2019، استضافت مؤسسة “ليدرز” اجتماعات في قاعات المدينة، وأجرت مقابلات شخصية خاصة مع المرشحين، ونشرت الردود على الاستبيانات، وقامت بالمتابعة من خلال إشراك جميع أعضاء مجلس إدارة المدرسة عن طريق الاجتماعات المنتظمة والحضور المستمر في الاجتماعات والمنتديات العامة. قبل مظاهر الدعوة العامة هذه، كانت مؤسسة “ليدرز” تحصل على دعم عضو واحد فقط في مجلس الإدارة، ولكن من خلال إنشاء قنوات حقيقية ومستمرة للمشاركة وصناعة القرار، حصلت “ليدرز” في النهاية على الدعم بالإجماع لرؤيتها حول السلامة المدرسية من قبل كافة أعضاء مجلس الإدارة المُنتَخبين حديثاً. فقد كان أعضاء مجلس إدارة المدرسة هؤلاء متوافقين مع رؤية مؤسسة “ليدرز” وصوتوا في النهاية لزيادة الموارد المخصصة للصحة العقلية، وضد أجهزة الكشف عن المعادن، ولإنهاء الحرمان المؤقت من المدرسة للصف الخامس وما قبله. وحتى عندما كانت هناك ردود فعل سلبية، قام القادة الشباب بنقل خبراتهم بشكل فعال وساعدوا في تثقيف أعضاء مجلس الإدارة ببعض الوقائع حول كيفية قيام الشرطة في المدارس بإيذاء الطلاب، وخاصة أصحاب البشرة الملونة منهم، مما يدل على قوة المثابرة وأهمية وجود أشخاص ذوي خبرات حياتية في صميم الدعوة للتغيير.

2. الحوكمة التعاونية تمنح العامة سلطة صناعة القرار، كما أنها تلتزم بتخصيص الموارد وتتابعه. 

غالباً ما يعني إعادة توزيع السلطة إعادة توزيع الموارد وتوجيهها لخدمة المجتمع. ومن الأمثلة الرائعة على ذلك وضع الميزانية التشاركي، حيث يتمتع المواطنون بسلطة صناعة القرار وسلطة وضع الميزانية لتخصيص الموارد المالية لخدمة المشاريع التي يعتبرونها تستحق الاستثمار فيها. وفي الميزانية التشاركية لمدينة نيويورك (PBNYC) على سبيل المثال، حظي السكان بسلطة صناعة القرار الحقيقية على أكثر من 35 مليون دولار من رأس المال السنوي لتخصيصها لبناء البنى التحتية التي تعود بالنفع على العامة. وتتضمن العملية خمس مراحل: جمع الأفكار وتوظيف المتطوعين، وتطوير العروض، وأسبوع التصويت، والتقييم والتخطيط. حيث يقترح السكان الأفكار ويصوتون عليها ضمن سير العملية، بما في ذلك تحسينات المدارس المحلية والمتنزهات والمكتبات والأماكن العامة والإسكان العام والشوارع وغيرها من المشاريع التي من شأنها أن تفيد مجتمعهم المحلي.

تزيد الميزانية التشاركية من المشاركة المدنية لأولئك الذين غالباً ما يتم استبعادهم من عملية صنع القرار؛ اختار مركز آش بجامعة هارفارد مدينة نيويورك لجائزة “الابتكارات في الحكومة الأمريكية“، مشيراً إلى أنه كان هناك عوائق لدى 23% من المشاركين في PBNYC والتي كانت تحول بينهم وبين التصويت في الانتخابات العادية، وقد ولد أكثر من ربعهم خارج الولايات المتحدة، ويجني نصفهم تقريباً أقل من 50,000 دولار في السنة، وتم تحديد غالبية المشاركين على أنهم من أصحاب البشرة الملونة. وفي العام الماضي، أطلقت وحدة المشاركة المدنية في مدينة نيويورك مشروع وضع ميزانية تشاركية لليافعين. حيث تمكن اليافعون الذي تتراوح أعمارهم من 9 سنوات إلى 24 عاماً من تقديم العروض والتصويت على المشاريع عبر استخدام المنصة الرقمية “ديسايدم” (Decidem)، كما أنهم قرروا بشكل تعاوني كيفية تخصيص مبلغ 100 ألف دولار في مختلف أنحاء المدينة. وتضمنت المشاريع الخمسة الرابحة برامج توجيه، وبرنامج تدريب للموسيقيين الشباب، وحديقة على سطح مدرسة ثانوية، وبرنامج إعادة تدوير في مناطق بروكلين وكوينز وبرونكس.

حدثت حالة مفيدة أخرى لإعادة التوزيع في أحياء أصحاب البشرة السمراء في مدينة غينزفيل بولاية فلوريدا. فأثناء طلب تعليقات المجتمع بشأن الخطة الشاملة للمدينة، قرر المفوض جونسون تخصيص ميزانية “للمزارعين المجتمعيين“. وبدلاً من الاستعانة بشركة استشارية خارجية لقياس احتياجات السكان أثناء وضع قرارات التنمية، قاموا بتعيين السكان المحليين وأعضاء المجتمع الموثوق بهم أنفسهم لجمع المعلومات حول احتياجات المجتمع ووجهات النظر لإدخالها ضمن الخطة الشاملة. ووفقاً لجونسون فقد قاموا “بإعادة تخصيص الموارد من الشركات الاستشارية ووضعه مباشرة في أيدي المجتمعات، بالإضافة إلى تمكنهم من الحصول على المعلومات التي كانوا يحتاجون إليها لإبلاغ قرارات السياسات في الوقت نفسه”. ويؤكد جونسون على أن أولئك الأقرب إلى المشكلة غالباً ما يتمكنون من تقديم مساعدة أكبر في تصميم الحلول.

3. تعزز الحوكمة التعاونية الرؤية طويلة الأجل، وتبني الزخم والعلاقات التي تدوم لفترة أطول من التي تحققها سياسات المرة الواحدة.

حيث تمثل الحوكمة التعاونية عملية ديمقراطية مستمرة بدلاً من مبادرة لمرة واحدة من خلال بناء العلاقات التي يمكن أن تدوم لفترة أطول من المشكلة بحد ذاتها. كما يمكن لها أن تسلط الضوء على قيمة “الخسارة الاستباقية” لخدمة الرؤية على المدى البعيد. على سبيل المثال، عندما وافق الناخبون في كولورادو على إجراء اقتراع لاعتماد منح إجازات عائلية مدفوعة الأجر على مستوى الولاية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، كان ذلك نتيجة سنوات من التنظيم التعاوني والعمل عبر مجموعات مختلفة من الناشطين الديمقراطيين. لكن هذه الجهود لم تتم إلا بعد سنوات من الفشل في تمرير القانون نحو مرحلة التشريع. حيث حول المدافعون عن القانون جهودهم إلى إنشاء مبادرة الاقتراع، وتمكنوا في النهاية من تمرير الاقتراح 118 من خلال إعادة وضع الاستراتيجيات والتواصل مع الجمهور والتنسيق الفعال بين المُشرّعين والدعاة. وعلى الرغم من تعثر الجهود التشريعية المتعلقة بالإجازة مدفوعة الأجر بشكل متكرر، كان التحالف ينمو في كل مرة ويحظى باهتمام متزايد من وسائل الإعلام ويصقل تفاصيل السياسة من أجل جهود المناصرة التالية. أسفرت هذه العملية عن وضع سياسة أفضل ومهدت الطريق لبناء حركة من شأنها أن تدوم لفترة أطول من الفوز بالسياسة لمرة واحدة.

باختصار، تخلق الحوكمة التعاونية حلقات ردود فعل إيجابية، والتي تشجع وتعزز الاحترام الحقيقي والفهم المشترك للسلطة بين الحكومة والمجتمع المدني. حتى في الحالات التي لم يكن فيها فوز السياسات فورياً، كانت العلاقات التي تم تأسيسها تؤثر على المدى الطويل. ففي كولورادو، تغيرت الحدود بين من هم داخل الحكومة ومن هم خارجها، مع ترشح المنظمين والناشطين لمناصب منتخبة في الحكومة. مثل فيث وينتر عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كولورادو التي كانت منظمِة وناشطة قبل أن تسعى للحصول على منصب مُنتَخب، وقد خلق انتقالها فرصاً لتعميق العلاقات بين أولئك داخل وخارج قاعات الحكومة. وتشير أيضاً إلى أن طريقة بناء العلاقات، من خلال الحوكمة التعاونية، بين المؤيدين لفكرة الإجازة مدفوعة الأجر قد تجاوزت تلك المبادرة المحددة، كما أن العديد من شركاء التحالف الذين عملوا معاً على تشريع الإجازة مدفوعة الأجر عملوا معاً فيما بعد على مبادرات أخرى لتحديث معايير التحرش في مكان العمل، ووضع معايير المساواة في الأجور، وتوسيع فرص الحصول على مساكن ميسورة التكلفة. على سبيل المثال، عندما أدارت السيناتور وينتر قانون السلطة لحماية حقوق العمال في عام 2021، انضم إليها في هذا الجهد العديد من المدافعين الذين عملت معهم في مشروع قانون الإجازة مدفوعة الأجر. ووفقاً للسيناتور وينتر “عندما تبني السلطة وعندما تُنشئ حركة، فالأمر لا يتعلق بمشكلة محددة. كان من الرائع أننا ربحنا قانون الإجازة مدفوعة الأجر. والآن أصبحنا نحظى بعلاقات عديدة. الآن أصبح لدينا تحالف. الآن أصبح لدينا بيئة عمل متكاملة لخلق التغيير”.

أدوات من أجل المستقبل

إن الحوكمة التعاونية ليست سوى واحدة من العديد من الأدوات التي تُفيد في بناء شكل أكثر شمولاً من الحوكمة والذي يخلق حلقات ردود أفعال لبناء السلطة المدنية. ولكن في الوقت الذي تواجه فيه مؤسساتنا السياسية أزمة ثقة، يُمكن للحوكمة التعاونية التي تستثمر في السلطة الشعبية في صناعة القرار أن تساعدنا على التقدم نحو سياسات ديمقراطية متعددة الإثنيات والأعراق وأكثر إنصافاً وشمولاً في القرن الحادي والعشرين. في النهاية، إن هدفنا ليس مجرد وضع سياسات أفضل بل خلق الظروف المواتية لبناء القدرات طويل الأمد للمجتمعات والموظفين العموميين كي يتمكنوا من العمل معاً. ولن يؤدي هذا إلى بناء ديمقراطية أكثر استدامة وعمقاً فحسب، بل سيغرس نوع الثقة الذي نفتقر إليه بشدة، حيث يتمتع السكان بالتفويض والكرامة للمشاركة في القرارات السياسية على أساس يومي، وليس فقط أثناء الانتخابات أو الأزمات.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.