هل حقاً يستطيع العالم الوصول إلى الصفر الكربوني بحلول 2050؟

الصفر الكربوني
freepik.com/rawpixel.com
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لم يعد الحديث عن تغير المناخ مجرد مناقشات نخبوية تحدث في أروقة قاعات المؤتمرات، فقد لمسنا جميعاً آثارها خلال السنوات الأخيرة، بدءاً من الحرارة غير المسبوقة، إذ كان العقد الماضي هو الأكثر دفئاً على الإطلاق، وصولاً إلى عواقب التغير المناخي من حرائق وفيضانات وجفاف حصدت الأرواح وشردت الملايين حول العالم.

أعلن قادة العالم، في محاولة لإنقاذ البشرية من الهلاك المحتم بنهاية القرن، التصدي للتغير المناخي بالتزامهم بخفض انبعاثات الكربون تدريجياً للوصول إلى “مستوى الصفر” أو الصفر الكربوني خلال السنوات المقبلة. ليصبح شعار “صفر انبعاثات” هو الأمل الذي يحدو الدول في معركة بقاء مع التغير المناخ.

نصت اتفاقية باريس لعام 2015 بشأن تغير المناخ، التي وقعت عليها جميع الدول، على إبقاء ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية، عبر تقليل انبعاثات الكربون بنسبة 45% بحلول عام 2030، والوصول إلى صافي انبعاثات صفري في 2050.

ارتفعت درجة حرارة الأرض حالياً نحو 1.1 درجة مئوية عما كانت عليه في بداية الثورة الصناعية، ووفقاً للمسار الحالي لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، من المتوقع أن ترتفع درجة الحرارة العالمية بمقدار 3 إلى 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن. وقد شهدت السنوات السبع الأخيرة بداية من عام 2015 أعلى درجات حرارة على الإطلاق. قالت “الأمم المتحدة” في بيان لها: “سيذكر التاريخ أن عام 2021 شهد موجة حر رفعت درجة الحرارة إلى ما يقرب من 50 درجة مئوية في كندا”.

هل نحن على المسار الصحيح للوصول إلى الصفر الكربوني؟

رغم الوعود التي تقدمها الدول والشركات الكبرى عبر اتفاقيات ومؤتمرات المناخ على مدار السنوات الأخيرة، وآخرها مؤتمر قمة غلاسكو للمناخ 2021، فإن العالم لا يزال بعيداً جداً عن المسار الصحيح للتصدي للتغير المناخي بعد وفقاً لـ “المنظمة العالمية للأرصاد الجوية“، بل إن تركيزات غازات الاحتباس الحراري وصلت إلى مستويات قياسية في عام 2021، وفقاً لتقرير “متحدون في العلوم، إذ أكد أنه لا توجد أي علامة على أن العالم سيصبح أكثر اخضراراً. وعلق الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيريش” (António Guterres)، قائلاً: “التقرير يظهر مدى بعدنا عن المسار الصحيح”، موضحاً أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة فيما يتعلق بالحاجة إلى العمل المناخي، لا سيما أن تغير المناخ يتحرك بشكل أسرع مما كنا نتوقع.

أرقام الأعوام الأخيرة بعد التزام الدول باتفاقية باريس للمناخ 2015 بعثت على القلق بشأن إمكانية تحقيق هدف الصفر الكربوني. فبينما يحتاج العالم لتقليل الانبعاثات إلى خفض إنتاج الوقود الأحفوري بنسبة 6% سنوياً تقريباً بين عامي 2020 و2030، فإن دول العالم، وفقاً للأمم المتحدة، تتوقع متوسط ​​زيادة سنوية بنسبة 2%. كما وجد تقرير “فجوة الانبعاثات” أن المساهمات المحددة وطنياً لا تخفض سوى 7.5% من انبعاثات 2030 المتوقعة، بينما يحتاج الصفر الكربوني إلى خفض الانبعاثات بنسبة 55% في 2030.

خرجت الشركات الكبرى التي وعدت بالوصول إلى الحياد الكربوني عن المسار الصحيح أيضاً، فقد أخفقت 25 شركة عالمية مثل “جوجل” و”آبل” و”أمازون” و”إيكيا” و”نستلة” في تحقيق أهدافها التي وضعتها للتصدي للتغير المناخي وفقاً لتقرير معهد المناخ الجديد، الذي اتهم الشركات بعدم توافق وعودها مع خطواتها الفعلية بشأن تقليل الانبعاثات الكربونية خاصة أن هذه الشركات التي أدرجها التقرير مسؤولة عن 5% من انبعاثات حول العالم. فكانت الشركات قد وضعت أهدافاً تعهدت على الالتزام بها بشأن تقليل بصمتها الكربونية، فتعهدت عملاق البحث “جوجل” بالتخلص من الانبعاثات بحلول 2030.

واستمرت ممارسات بعض الدول بتعجيل عواقب التغير المناخي، بتدمير “بالوعة الكربون” في إشارة إلى الغابات المطيرة التي تسهم في امتصاص كميات كبيرة من غازات الغلاف الجوي، لذا تعهدت أكثر من 100 دولة مشاركة بقمة التغير المناخي الأخيرة في مدينة غلاسكو بالتوقف عن عمليات إزالة الغابات بحلول عام 2030. وعلى الرغم من ذلك، وصلت أعداد الأشجار المقطوعة من غابات الأمازون البرازيلية إلى أعلى حصيلة في يناير/كانون الثاني الماضي، إذ تعادل بقعة الأشجار المقطوعة، التي التقطتها الأقمار الاصطناعية خمسة أمثال نظيرتها في العام السابق.

ما الذي ما زلنا نستطيع فعله؟

رغم أن هذه الممارسات والأرقام التي تدل على أن العالم لم يوف بتعهداته تجاه الكوكب بعد هي قطرة من غيث، لكن الخبراء يؤكدون أن الأمل ما زال موجوداً لإعادة وضع أقدامنا على المسار الصحيح للوصول إلى الصفر الكربوني.

نعم، الخبر السار هو أنه إذا تبنت الدول والمؤسسات خططاً واقعية وبذلت الجهود لتنفيذها فسيتحول حلم صفر انبعاثات إلى واقع بحلول عام 2050، لكن الخبر المقلق أن تحقيق الهدف يتطلب تعاوناً من الجميع من دون استثناء، بمعنى أنه إذا تخلف أي قطاع عن الركب، فسيكون من المستحيل تعويض الفارق في مكان آخر.

أطلقت “مؤسسة دبي للمستقبل” تقريراً بعنوان “الفرص المستقبلية“، أوردت خلاله 50 فرصة عالمية قابلة للتحقيق من شأنها صنع غد أفضل لكوكب الأرض، ومن ضمنها عدة فرص خاصة بتقليل الانبعاثات الكربونية. اعتمد تقرير “الفرص المستقبلية” على مراجعة وتحليل أكثر من 100 دراسة وتحليل وكتاب ومقال، ثم مقابلات شخصية وعبر الإنترنت لمناقشة الفرص وفوائدها وقابليتها للتحقق. كما كشف تقرير “وكالة الطاقة الدولية” أن العالم، على الرغم مما يحدث الآن، يمكن أن يصل إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050، لكن ذلك سيتطلب بعض التغييرات الكبيرة.

يتطلب الوصول إلى الصفر الكربوني السير في مسارين بشكل متوازٍ، الأول هو الحد من الانبعاثات الحالية، والثاني هو إزالة الانبعاثات المتبقية من الغلاف الجوي. ويمكن السير في المسار الأول عبر العديد من الإجراءات، بعضها متعلق بالدول والمؤسسات الكبرى، وبعضها قد يقع علينا كأفراد.

الاستثمار في الاقتصاد الأخضر: يمتلك العالم فرصة حقيقية لتعزيز الاستثمارات المعتمدة على الطاقة المتجددة والمباني الذكية والمواصلات الخضراء. إذ يعني الوصول إلى صافي الكربون الصفري بشكل أساسي حدوث انخفاضات هائلة في استخدام الفحم والنفط والغاز، لذا أوصت “وكالة الطاقة الدولية” الدول بعدم الموافقة على إنشاء محطات جديدة تعمل بالفحم دون هوادة اعتباراً من عام 2021.

يعتبر الخبراء الطاقة المتجددة هي طوق النجاة الأول، إذ تبين أنها الطريقة الأكثر فعالية من حيث التكلفة لتوفير 90% من التخفيض المطلوب في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى تعزيزها نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1%، وتوفير فرص عمل لما يقرب من 29 مليون شخص وفقاً لـ “الوكالة الدولية للطاقة المتجددة”. ومن المقرر أن يؤدي إغلاق جميع محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم إلى خفض الانبعاثات بنحو 3 مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهو ما يمثل خُمس الانخفاض المطلوب بحلول العام 2030.

على الرغم من ارتفاع تكلفة التكنولوجيا المتجددة في بعض الدول، فقد انخفضت بنسبة 13% لمشاريع الرياح البرية، وتراجعت تكلفة مشاريع الطاقة الشمسية الكبيرة بنسبة 85% في العِقد الماضي وفقاً لمقال بعنوان: “7 توجهات مستقبلية لبيئة مُستدامة“.

إذا سار العالم على مساره الصحيح، فبحلول عام 2050، ينبغي أن تأتي 90% من الكهرباء المنتجة على مستوى العالم من مصادر متجددة، مع 70% من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

مساعدة الدول النامية: فيما يخص التغير المناخي، فالعالم ليس عادلاً أبداً، إذ إن غالبية البلدان الغنية هي المسبب الرئيس للانبعاثات، مثل دول مجموعة العشرين، المسؤولة عن توليد 80% من انبعاثات الكربون، وفي المقابل، فإن البلدان الضعيفة المسؤولة بشكل أقل عن الانبعاثات تتحمل أسوأ الآثار الناجمة عن كوارث المناخ. إذ يمكن أن تبلغ التكلفة الاقتصادية لتداعيات التغيّر المناخي بين 400 مليار دولار إلى 580 مليار دولار سنوياً في البلدان النامية بحلول عام 2030.

وكما ذكرنا، فإن مكافحة التغير المناخي تتطلب مشاركة الجميع، حيث تعهدت الدول المتقدمة في 2009 بتقديم تمويل مناخي بقيمة 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية، إلا أن الكثير من الدول لم تَفِ بتعهداتها بعد، وهو ما دفع “الأمم المتحدة” إلى التلويح بضرورة إيفاء هذه الدول بتعهداتها من منطلق أن الجميع في نفس القارب.

صياغة حوافز: جهود الحد من الانبعاثات ليست يسيرة ومكلفة للغاية خاصة في البداية، لذا يقترح تقرير الفرص المستقبلية صياغة حوافز لتعويض الدول التي تتخذ إجراءات للحد من هذه الانبعاثات. وقد تبادر الدول في التخلص التدريجي من الأنشطة التي تسهم في انبعاثات الكربون، وتُمنح تعويضات عبر أرصدة الكربون التي تحصل عليها مقابل ذلك. وستوجه العوائد المتزايدة من الاستثمار في الأصول والأساليب التي تسهم في الحد من الانبعاثات العالمية نحو الأنشطة الداعمة للمناخ في الاتجاه المعاكس تماماً، وبذلك يصبح توفير الطاقة وتقليل الانبعاثات ضرورة مبررة اقتصادياً واجتماعياً.

إزالة الانبعاثات المتبقية من الغلاف الجوي: طريق موازٍ للوصول إلى الصفر الكربوني

إجراءات الحد من الانبعاثات ضرورية، لكننا ما زلنا بحاجة إلى إزالة الانبعاثات المتبقية في الغلاف الجوي للوصول إلى الصفر الكربوني ثم تخزينه بطريقة آمنة، وهذه أبرز الفرص التي يمتلكها البشر لإزالة الكربون:

الهندسة الجغرافية: قرر الباحثون والعلماء سلك طريق آخر لمكافحة التغير المناخي رافعين راية “ربما يُصلح العلم ما أفسده البشر”، إذ وضع علماء الهندسة الجغرافية مشاريع لاصطياد ثاني أكسيد الكربون عن طريق استخدام أحواض الكربون الطبيعية مثل الغابات أو المحيطات، وتركيب شفاطات ثاني أكسيد الكربون في كل مكان أو وضع المرشحات على مداخن المصانع.

وقد دخلت هذه المشاريع حيز التنفيذ بالفعل عبر شفاطات كهربائية لغاز ثاني أكسيد الكربون، وبعدها يُسرب هذا الغاز الملتقط في قنوات تحت الأرض. وقد استخدمت الشركة السويسرية “أعمال المناخ” (Climeworks) مشروعاً مشابهاً لالتقاط لكربون من مصنع حرق النفايات بتركيب أجهزة استشعار على سطح المصنع.

الهندسة الوراثية: يعمل الباحثون على تطوير المواد وتحسين أنواع معينة من الأشجار والنباتات بالهندسة الوراثية لالتقاط الكربون. وتشمل هذه المواد: البلاستيك الحيوي والخشب والرمل والخرسانة. وقد يتيح تطوير مواد ماصة للكربون استخدام أسطح ذكية ومواد حيوية في رصف الطرق والدهان والإكساء، لتصبح المدن أنظمة متكاملة لالتقاط الكربون وتخزينه.

الطبيعة حل مثالي: هناك الحلول القائمة على الطبيعة، التي تقوم فيها عناصر من الطبيعة مثل الغابات، وأشجار المانغروف، والتربة وحتى غابات الأعشاب البحرية، بامتصاص الكربون وهو ما يعرف بـ “الكربون الأزرق”؛ أي: الكربون الذي تمتصه البيئات الساحلية وتخزينه ذاتياً.

تخزين الكربون

نحن بحاجة إلى 2,500 محطة كبيرة لالتقاط مليارات الأطنان من ثاني أكسيد الكربون من الهواء بحلول عام 2040. ويقدر الخبراء أنه بإمكاننا إزالة هذه الأطنان من ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتخزينه عبر إعادة توظيف منصات استخراج النفط والغاز.

فمع تزايد الاستثمار في مجال الطاقة النظيفة، ستصبح منصات النفط والغاز أصولاً متقادمة مهجورة، فيقترح تقرير “الفرص المستقبلية” تحويلها إلى منشآت لعزل الكربون وخفض كميات ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي بدلاً من هدمها.

ربما تخاذلت الدول في السنوات الماضية، إلا أن العقد الحالي هو جرس الإنذار الأخير لتكثيف الجهود والالتزام بالوعود والاتفاقيات قبل أن تندفع الكرة الأرضية إلى منزلق نهايته عواقب لن يتحملها البشر.