كيف يسهم التعاون والتمويل الجماعي في نجاح العمل الخيري؟ صندوق الشفاء ورواد التنمية مثالاً

التمويل الجماعي
shutterstock.com/Monster Ztudio
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الثاني من سلسلة مؤسسات خيرية مؤثّرة: كيف يُحدث العطاء تغييراً في المنطقة العربية؟ والتي تحدثنا في جزئها الأول عن أسس العطاء الفعّال وقدمنا نموذجين عن عمل المؤسسات الخيرية القائم على الابتكار، وتوسيع نطاق الممارسات الفعّالة. نستكمل في هذا الجزء الحديث عن نماذج أخرى من المؤسسات الخيرية المؤثرة، والتي تعتمد نموذج التعاون والتمويل الجماعي، ودعم الشباب والمجتمعات المحلية في قيادة التغيير.

التعاون والتمويل الجماعي: صندوق الشفاء

يستمر مشهد العمل الخيري في التطور والتوسع، وأصبح لا يمكن إحداث تأثير في المجتمع والتوصل إلى حل جذري للقضايا المُلحة بجهود فردية، وبات الأمر لا يتطلب مجموعات تمويل أكبر فحسب، ولكن المزيد من الإرادة والخبرة.

ويعود العطاء التعاوني بفوائد عديدة على الممولين والمستفيدين، لأنه يمثل فرصة لتعلّم المانحين وإكسابهم الحكمة والخبرة في توجيه استراتيجياتهم وممارساتهم المستقبلية في العطاء، ومساعدتهم  في إدارة المخاطر، وزيادة التأثير.

يتمثل التعاون في العمل الخيري في الرؤية المشتركة، والاعتماد على المساهمة بدلاً من الإسناد لتشجيع الممولين على إعادة التفكير في كيفية معالجة القضايا المجتمعية المُلحّة، ويُعد صندوق الشفاء من المؤسسات الخيرية في المنطقة التي تتبع هذا النهج من العطاء، إذ تأسس عام 2013  بهدف جمع مساهمات المانحين وخلق أفق التعلم والتعاون فيما بينهم، من أجل سد ثغرة تمويل المشاريع الصحية القائمة، وتوفير فرص حياة أفضل للأطفال والأسر المُستضعفة.

دعَم روّاد العطاء المبادرات التي تعالج بعض الاحتياجات الصحية للمجتمعات الفقيرة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، لمعالجة أمراض قاتلة ومعقدة تصيب الأطفال خاصة، مثل شلل الأطفال، ومرض النوم الإفريقي، أو ما يسمى بداء المثقبيات (trypanosomiasis)، والتهاب السحايا من النمط A ومجموعة الأمراض المدارية المهملة (NTDs)، لكن رائد الأعمال السعودي خالد الجفالي وزوجته ألفت المطلق الجفالي، أدركا أنه لا يمكن لجهد مؤسسة خيرية أو مانح واحد أن يُحدث فرقاً في محاربة هذه الأمراض المتفشية، فعمل الزوجان على استقطاب روّاد عطاء طموحين، وتعاونا مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس (Bill and Melinda Gates Foundation) للاستفادة من خبراتها في مجال الصحة ومكافحة الأمراض لإطلاق صندوق الشفاء.

انطلق الصندوق الذي تديره المؤسسة الخيرية البريطانية إن بي تي ترانس أتلانتك (NPT Transatlantic) من فكرة التعاون الوثيق بين مجموعة مانحين في المجال الخيري في المنطقة، وبهدف جذب استثمارات أكبر والتعجيل في حل المشاكل الصحية والمعيشية التي تعاني منها المجتمعات المحرومة.

وترتكز الفكرة الأساسية لعمل صندوق الشفاء على تقليص الفجوة في تمويل الأمراض المدارية المهملة، والعمل مع مانحين ومؤسسات دولية لوضع معايير لفحص المنح وانتقائها من أجل تحقيق التأثير المستدام، وقدّم الصندوق منحاً إلى مؤسسات فعّالة في المنطقة منها، صندوق إنهاء الأمراض المهملة، إيند فاند (The End Fund)، وصندوق نثينغ بات نتس (Nothing But Nets)، والهيئة الطبية الدولية (International Medical Corps. IMC)، كما يوفر الدعم المادي للمؤسسات المعنية بتقديم خدمات الرعاية الصحية والإمدادات الأساسية إلى النساء والأطفال في أعقاب النزاعات أو الكوارث الطبيعية.

تبني الصندوق أسلوب التمويل الجماعي في تقديم المنح، يؤدي إلى تدفق أكبر لرأس المال، إذ يساهم كل مانح مشارك بمبلغ لا يقل عن 250 ألف دولار لمدة سنتين، ثم يتناقش الأعضاء حول تقديم هذه المنح ويستفيدون من خبرات بعضهم البعض للتوصل إلى أفضل القرارات حول اختيار مواقع الاستثمار والممارسات التي ثبُت جدواها، على سبيل المثال تعلّم المانحون من خلال تمويل صندوق إنهاء الأمراض المهملة أهمية استهداف المناطق التي ينتشر فيها المرض بكثافة عالية قبل الانتقال إلى مناطق أخرى.

منذ تأسيسه، نجح الصندوق في جمع أكثر من 15 مليون دولار استثمرها في مكافحة الأمراض مثل الكوليرا، والتهاب السحايا، ومرض النوم، وجائحة كوفيد-19، وتقديم الرعاية للنساء والأطفال، وتوفير الإغاثة الطارئة في مناطق النزاعات؛ ما ساهم في إنقاذ أو تحسين حياة ما يزيد عن 21 مليون شخص.

يؤمن الصندوق بفكرة أنه لا يمكن المساعدة عن بُعد، لذا اهتم بتنظيم الزيارات الميدانية والرحلات التثقيفية لتعميق فهم المانحين حول حقيقة الأوضاع الإنسانية على أرض الواقع من أجل إحداث الأثر طويل المدى، وكان لهذه الزيارات دوراً مباشراً في اتخاذ قرارات تقديم المنح، ومنها قرار تقديم منحة بقيمة 1.8 مليون دولار لمنظمة الأمم المتحدة للأطفال، اليونيسيف عام 2015، ساعدت في تلقيح 7 ملايين طفل في سوريا والعراق ضد شلل الأطفال.

يُجري الصندوق تقييمات دورية للمشاريع المستفيدة من المنح، ويعتمد على مجلسه الاستشاري في مراجعة الاستثمارات التي لاقت صدى لدى المانحين لأخذها بعين الاعتبار في تقديم المنح المستقبلية، ويستعين الصندوق بالمجلس الاستشاري أيضاً في البحث عن أفضل الشركاء قبل تقديم المنح والتدقيق في حجم الأثر المتوقع، وإمكانية توسيع نطاق المشروع.

تشغَل الشراكة حيزاً كبيراً من عمل الصندوق، إذ اعتمد على إحدى الوكالات الاستشارية العالمية المتخصصة بالعطاء لتقديم خدمات الاتصال لأعضاء الصندوق، وعقْد اجتماعات المجلس الاستشاري، ورصد النتائج وتتبعها وتنظيم الزيارات الميدانية، كما لجأ صندوق الشفاء إلى صندوق تمويل خارجي لإدارة أصوله، والإشراف على عمليات سداد دفعات متلقيّ الاستثمار وتعهدات الأعضاء.

دعم الشباب والمجتمعات المحلية في قيادة التغيير: مؤسسة روّاد التنمية

لم يعد العمل الخيري يعتمد في استراتيجيته على رؤى الحكومات والقطاع الخاص فقط، بل أصبح إشراك المجتمعات المحلية والقواعد الشعبية في منظومة العطاء ضرورة لتحقيق التنمية وتوفير سبل حياة أفضل للمجتمعات والأفراد، وتُعد مؤسسة روّاد التنمية نموذجاً لدعم الحلول التي تقودها المجتمعات المحلية في المنطقة، وكانت وليدة فكرة تنموية آمن بها رائد الأعمال الأردني ومؤسس شركة أرامكس، فادي غندور.

بدأت قصة روّاد التنمية في عام 2005، عندما فقد غندور صديقه رجل الأعمال الأردني مصعب خورما في هجمات إرهابية بالعاصمة عمّان، ما دفعه للبحث عن أسباب الإرهاب ومنها بطالة الشباب، وفي إطار سعيه لرفع مستوى المسؤولية الاجتماعية لشركة أرامكس، قرر غندور حشد دعم رجال الأعمال الأردنيين ومن بينهم، نائب رئيس مجلس إدارة مجموعة أسترا الصناعية، خالد المصري، لإطلاق روّاد التنمية.

ركزت المؤسسة على تعزيز روح المبادرة ومراجعة الأولويات المُلحة لحل المشكلات المجتمعية بمشاركة أفراد المجتمع المحلي، والتغلب على التهميش عن طريق التعليم والبرامج الشبابية التطوعية، ويتمحور عمل المؤسسة على تنمية الطفل، وتمكين الشباب، وتمكين المجتمع.

وتستهدف المؤسسة توظيف أدوات الريادة لدعم الكفاءات الشبابية من أجل تحقيق العدالة والمساواة والنهوض بالمجتمعات المهمشة، واعتمدت نهج البدء من الأسفل إلى الأعلى في التدخلات المجتمعية، والاستعانة بالمشاركة المدنية والشباب لإحداث أثر إيجابي في المجتمعات المحرومة، خصوصاً أنه عند تأسيس روّاد التنمية كان الأشخاص دون سن الـ 30 عاماً يشكلون نحو 70% من إجمالي عدد سكان الأردن، وشكلت فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً نحو 22% من السكان، وثلث هذه الشريحة تقريباً كانت تعاني من البطالة.

تميزت روّاد التنمية عن غيرها من المؤسسات في تمكين الشباب من خلال صندوق منح مصعب خورما، لمساعدة الشباب من عمر 18 عاماً وما فوق على متابعة دراساتهم في جامعات وكليات مرموقة، كما يتطوع هؤلاء الشباب بما لا يقل عن أربع ساعات أسبوعياً خلال فترة المنحة في البرامج المجتمعية التي تنظمها المؤسسة، واستفاد من هذه المنح 2127 شاب وشابة في الأردن ولبنان وفلسطين ومصر، إضافة إلى ذلك، توفر المؤسسة للشباب مساحة نقاش أسبوعية تسمى دردشات لطرح الأسئلة واكتساب المعرفة والمهارات وبناء العلاقات، وتمكنت من تنظيم ما يزيد عن 1692 جلسة إثرائية شبابية منذ عام 2005، بهدف تنمية مهارات الاستماع الفعّال والحوار.

اهتمت المؤسسة أيضاً بالشباب في مراحلهم العمرية المبكرة، وطوّرت بمساعدة المجتمع المحلي برامجاً لتنمية مهارات الأطفال من عمر 8 إلى 13 عاماً، وشملت هذه البرامج عقد جلسات إبداعية، ونوادي صيفية، والرياضة، والدعم الأكاديمي، فضلاً عن خلق بيئة آمنة للتعبير عن الذات وتطوير مهارات حل المشكلات للفئات العمرية من 14 إلى 17 عاماً.

في إطار تمكين المجتمع، تعمل روّاد التنمية على تشجيع المبادرات المدنية والعمل الجماعي في المناطق المهمشة مثل منطقة جبل النظيف في شرق العاصمة الأردنية عمّان، التي تضم مخيماً غير رسمي للاجئين، وتعاني من الفقر وارتفاع معدلات البطالة، وظروف معيشية سيئة، إذ عملت المؤسسة على دعم سكان هذه المنطقة في إطلاق حملات مجتمعية لتغير حياتهم وتحسينها، منها:

تُمثل روّاد التنمية حلقة وصل بين القطاع الخاص، والمؤسسات غير الربحية، والدوائر الحكومية، وأفراد المجتمعات المحلية، وتُعد الشراكة مكوناً رئيسياً في نهج عملها، على سبيل المثال تتعاون المؤسسة مع مركز العدل للمساعدة القانونية لتقديم الاستشارات القانونية لسكان جبل النظيف، وترى المؤسسة أن عملها مكملاً لجهود الحكومة في دعم المجتمعات المحرومة، إذ تتعاون مع وزارة التربية والتعليم لترميم أبنية المدارس والتدريب المهني، وتتشارك مع وزارة العمل لتحديد فرص العمل للسكان المحليين، إلى جانب ذلك يوظّف غندور علاقاته الواسعة مع القطاع الخاص لتحديد ممولين إضافيين للإسهام في استكمال مهام المؤسسة.

ختاماً، تمكنت المؤسسات الخيرية العربية المؤثرة من إحداث تغيير جذري في المجتمع، إذ أثبت صندوق الشفاء أن التمويل الجماعي أداة فعّالة لتوظيف موارد المانحين من خبرة وبنية تحتية وحضور جغرافي، واختبار الحلول لتبنّي ممارسات مثبتة تلبي احتياجات المجتمعات المحرومة، فيما نجحت روّاد التنمية من خلال نموذج العمل القائم على قيادة المجتمع المحلي للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، ومشاركة القطاع الخاص وتمكين الشباب، في المساهمة بفاعلية لتحقيق التنمية المستدامة، وتوجيه التغيير وفق متطلبات المجتمعات المحرومة.