كيف يمكن دمج رؤوس الأموال مع دعم الأعمال الخيرية؟

الأدوار والعلاقات
https://www.shutterstock.com/ImageFlow
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الرابع من سلسلة “إعادة اكتشاف الابتكار الاجتماعي” التي تحدثنا في الجزء الأول منها عن دور الابتكار الاجتماعي في خلق التغيير الاجتماعي. وفي الجزء الثاني عن تعريف الابتكار الاجتماعي ومعنى كلمة اجتماعي. وفي الجزء الثالث تحدثنا عن عن آليات الابتكار الاجتماعي وأهمية القيم والأفكار. أما اليوم في هذا المقال سنتحدث عن تغيير الأدوار والعلاقات بين القطاعات المختلفة، ودمج رؤوس الأموال الخاصة مع العامة ومع الدعم الخيري.

تغيير الأدوار والعلاقات

المصدر الثاني للابتكارات الاجتماعية المعاصرة هو الأدوار المتغيرة والعلاقات بين القطاعات الثلاثة. تقود الشركات الطريق في العديد من القضايا الاجتماعية، إذ تعمل مع الحكومات والمنظمات غير الربحية كشركاء بدلاً من أن يكونوا خصوماً أو متوسّلين. وبالمثل، تُشارك المنظمات غير الربحية مع الشركات والحكومات في المساعي الاجتماعية، وفي الوقت نفسه ابتعدت الحكومات عن الأدوار العدائية كجهة تنظيمية وفارضة للضرائب وتوجهت نحو الأدوار الأكثر تعاوناً كشريكة وداعمة.

تعتبر هذه التحولات في الأدوار والعلاقات أساسية لفعالية عدد من الابتكارات الاجتماعية، مثل تجارة الانبعاثات. وتجارة الانبعاثات هي نهج قائم على السوق للحد من تلوث الهواء، يُطلق عليها أيضاً اسم “كاب آند تريد” (cap and trade)، وتعتمد على القطاعات الثلاثة للعمل. أولاً، سلطة مركزية – تكون هي الحكومة في العادة – وتضع قيوداً على مقدار التلوث الذي يمكن أن تُولّدهُ الشركات. ثم تصدر السلطة المركزية أرصدة تُمثّل مقدار المُلوِّثات التي قد تنبعث من شركة ما. إذا احتاجت الشركة إلى إنتاج المزيد من الملوثات يُمكِنُها شراء أرصدة من شركة أخرى، ولكن إذا خفَّضت الشركة انبعاثاتها فيمكنها بيع أرصدتها لشركات أخرى. من خلال إنشاء الحوافز المناسبة والسماح بالتبادل الطوعي بين الأطراف، تعمل تجارة الانبعاثات على إضفاء اللامركزية على الخيارات المتعلقة بكيف ومتى وأين يتم تقليل المُلوِّثات، ما يضمن إجراء التخفيضات الأكثر فعالية من حيث التكلفة أولاً.

على سبيل المثال، نفذت وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA) تجارة الانبعاثات مع “قانون الهواء النظيف” (Clean Air Act) لعام 1990. ويُعزى هذا الابتكار بشكل أساسيّ إلى الحد من مشكلة المطر الحامضيّ في شمال شرق الولايات المتحدة، وهو يبشر ببوادر التطبيق على الغازات المُسبِّبَة للاحتباس الحراري.

تدعم المنظمات غير الربحية الشركات والحكومات طوال عملية تجارة الانبعاثات. على سبيل المثال؛ تقدم المنظمات غير الحكومية المساعدةَ الفنيةَ عن طريق القياس والتحقق من مقدار تقليل الانبعاثات في الشركات. وبالمثل، يستخدم “مشروع الكشف عن الكربون” (CDP) بيانات حول انبعاثات الكربون لأكبر الشركات في العالم لتوجيه قرارات الاستثمار. يُنظِّم CDP المستثمرين المُؤسَّسِيِّين لطَلَبِ الكشف الطَوعِي عن بيانات انبعاثات الكربون ويُبلِغُ المساهمين والشركات بمخاطر الأعمال والفرص التي يوفرها تغير المناخ وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري. كانت بنوك الاستثمار “ميريل لينش” و”غولدمان ساكس” و”آتش إس بي سي” من المُستثمرين المُميزين في برنامج (CDP)، مع توفر حرية الوصول لها إلى جميع البيانات المبلغ عنها من قبل 3,000 من أكبر الشركات في العالم.

تتطلب تجارة الانبعاثات أن تقوم المنظمات غير الربحية والشركات والحكومات بأدوار جديدة. كانت الوكالات الحكومية تقليدياً تضع اللوائح وتُؤسس الشركات الخاضعة للمراقبة، وكانت الشركات تُحارب التنظيم والمراقبة، والمنظمات غير الربحية كانت تعمل كحرّاس يُحذّرون من الشركات الخبيثة والوكالات الحكومية المُتَراخية. الآن، تعمل الحكومة والمنظمات غير الربحية والشركات معاً لتحسين البيئة. في غياب هذه الأدوار الجديدة، من المحتمل ألا تكون أنظمة تجارة الانبعاثات قد ظهرت، وبدون التفاعل المستمر بين الصناعة والهيئات الحكومية ودُعاةِ البيئة في تصميم برامجَ محددة ومُراقبتها وصَقلِها، فمن غير المرجح أن تكون قد حققت أهدافها المرجوة.

دمج رؤوس الأموال الخاصة مع العامة ومع الدعم الخيري

غالباً ما تكون شرائح المجتمع المحرومة والمُهمَلةُ غير قادرة على دفع ثمن السلع الأساسية مثل الرعاية الصحية والغذاء والإسكان. ونتيجةً لذلك، لن تُنتِجَ الأسواق غير المقيدة السلعَ والخدمات التي يحتاجها هؤلاء السكان. لِسَدِّ هذه الثغرات في السوق، دفعت الحكومات والمنظمات الخيرية ثمن هذه السلع والخدمات أو دَعَمَتها – في الواقع، قامَت بإعطاءِ المَعونات. ولكن مع ذوبان الانقسامات القِطاعية، تعمل المنظمات غير الربحية والحكومات والشركات على مزجِ مصادرِ ونماذجِ التمويل لخلق ابتكارات اجتماعية مُستدامة، بل ومُربِحَة في بعض الأحيان.

تتضمن العديد من الابتكارات الاجتماعية إنشاء نماذج أعمال جديدة يمكنها تلبيةُ احتياجات السكان المحرومين بشكل أكثرَ كفاءةً وفعاليةً، وإن لم يكُن مُربِحاً، على الأقلّ بشكل مُستدام؛ يفعلون ذلك من خلال وجود هياكل منخفضة التكلفة وقنوات توصيل أكثر كفاءةً، وغالباً عن طريق مزج منهجيات متعلقة بالسوق مع أخرى غير متعلقة به، لاسيما من خلال الجمع بين الإيرادات التجارية والدعم المالي العام أو الخيري. تتضمن نماذج الأعمال الهجينة هذه العديد من المقايضات، كما أنها مشحونة بالتوتر، لكنها تتغلب على العديد من القيود التي تواجهُها المنظمات التجارية أو الخيرية البحتة عند محاربةِ المشاكل والاحتياجات الاجتماعية.

في منتصف التسعينيات على سبيل المثال، شرعت منظمةُ تمويل تنموية مجتمعية مُبتكرة تُدعى “سيلف هيلب” (Self-Help) في حملة شرسة لتزويد العائلات ذات الدخل المنخفض والأقليات في كثير من الأحيان في شمال كارولينا، مع إمكانية أكبر للحصول على ملكية المنازل. قامت المنظمة بذلك من خلال نموذج إبداعيّ أدّى إلى زيادة توافر رأس المال للبنوك المحلية. في هذه العملية، كانت منظمة “سيلف هيلب” رائدةً في السوق الثانوية للأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري على أساس قروض للأُسَرِ ذات الدخل المنخفض.

يعمل النموذج على النحو التالي: تشتري “سيلف هيلب” القروض العقارية التي تقدمها البنوك التجارية للمُقتّرِضين ذوي الدخل المنخفض والمتوسط. تقومُ بعد ذلك بإعادة حَزمِ القروض وبيعها إلى الجمعية الفيدرالية الوطنية للرهن العقاري – المعروفة أيضاً باسم “فاني ماي” (Fannie Mae). للتغلب على قيود الاكتتاب الخاصة لجمعية “فاين ماي”، تفترض “سيلف هيلب” مخاطر التخلُّفِ عن سداد القروض المُجَمَّعة. بفضل الأموال من “فاني ماي”، يُمكن لبرنامج “سيلف هيلب” شراء المزيد من القروض من البنوك التجارية، وبالتالي منح هذه البنوك التجارية أموالاً إضافيةً لتقديم قروض للمجتمعات المحرومة من الخدمات. تعتمد منظمة “سيلف هيلب” على معرفتها العميقة بالأسر ذات الدخل المنخفض لمساعدة شركائها التجاريين على تصميم قروض عقارية تُلبّي احتياجات العملاء.

في عام 1998، خصَّصت مؤسسة فورد مبلغ 50 مليون دولار أميركي لتوسيع برنامج المساعدة الذاتية على المستوى الوطني. من خلال التخفيف من المخاطر على البنوك الربحية وإثبات الجدارة الائتمانية للمُقتَرِضين ذوي الدخل المنخفض، أصبَحَت منحة فورد البالغة 50 مليون دولار أكثر من 2 مليار دولار على شكل قروض عقارية ميسورة بحلول عام 2003. التزمت “فاني ماي” لاحقاً بإعادةِ شراءِ 2.5 مليار دولار إضافيةً على شكل قروض من برنامج “سيلف هيلب” خلال 2008.

هذا الحل لمشكلة تدني ملكية المساكن بين الفقراء ومجتمعات الأقليات هو حلّ قائم على السوق تمّ إنشاؤه من خلال الشراكات عبر القطاعات. انطلق البرنامج على أرض الواقع بسبب ضخّ صغير نسبياً لرأس المال الخيري. مكّنت هذه المنحة بدورِها الأموالَ من التدفُّق بين البنوك التجارية، ووكالةِ تنمية مجتمعية غير ربحية، ومؤسسة مالية هادفة للربح مُعترف بها فيدرالياً، والمستثمرين من القطاع الخاص في النهاية.

لا شك في أن أزمة الرهن العقاري تُلقي بظلالها على هذا الابتكار الاجتماعي، لكن الفحص الدقيق للأزمة يكشف أن المشكلة لا تكمن في الابتكار نفسه، إنما في تسويقه المُفرط في الصيغة التجارية – وهو نوع من الابتكار الاجتماعي خارج عن السيطرة. يشعر مارتن آيكس مؤسس “سيلف هيلب” بالغضب حيال الميّزات الاستغلالية للقروض العقارية عاليةِ المخاطر، بما في ذلك الرسوم الباهظة، والمُعدّلات الأوّلية المرتفعة، ومعدّلات الفوائد المتفجرة في الزيادة والقابلة للتعديل، والعقوبات على سداد القرض مبكراً. (للاطلاع على المقابلة مع إيكس، يُرجى مراجعة مجلة ستانفورد ريفيو للابتكار الاجتماعي، عدد صيف 2008). ويشير إلى أن برنامج “سيلف هيلب” وغيره من المُقرِضين المسؤولين يستخدمون المزيد من الممارسات الصديقة للمُستَهلِكين مثل معدلات الفائدة الثابتة لمدة 30 عاماً، والدفعات المُقدّمة المطلوبة، وعدم وجود جزاءات على الدفع المسبق، والتدقيق الدقيق والعادل لمُقدّمي طلبات القروض.

يشكر المؤلفون جيفري براداش، وجيه. غريغوري ديس، وسام كانر على تعليقاتهم المفيدة على المسودات السابقة للمقال، وأليسون ستيوارت ولياني ماتاساوا ميتز على مساعدتهم البحثية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.