تعرف على آليات الابتكار الاجتماعي

آليات الابتكار الاجتماعي
shutterstock.com/ vs148
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الثالث من سلسلة “إعادة اكتشاف الابتكار الاجتماعي” التي تحدثنا في الجزء الأول منها عن دور الابتكار الاجتماعي في خلق التغيير الاجتماعي. وفي الجزء الثاني عن تعريف الابتكار الاجتماعي ومعنى كلمة اجتماعي. أما اليوم في هذا المقال سنتحدث عن آليات الابتكار الاجتماعي وأهمية القيم والأفكار.

آليات الابتكار الاجتماعي

يتم إنشاء الابتكارات الاجتماعية وتبنّيها ونشرها في سياق فترة معينة من التاريخ. على الرغم من أن تعريفنا للابتكار الاجتماعي يتجاوز الزمن، فإن آليات الابتكار الاجتماعي – التسلسل الأساسي للتفاعلات والأحداث – تتغير مع تطور المجتمع ومؤسساته. لذلك تختلف الديناميكيات التي تقود إحدى أكثر فترات الابتكار الاجتماعي المثمرة في الولايات المتحدة – الكساد الكبير – عن تلك التي تقود الابتكار الاجتماعي المعاصر. لفهم الابتكار الاجتماعي بشكل كامل، يجب علينا أيضاً دراسةُ الفترة التاريخية.

على سبيل المثال؛ كان للانكماش الاقتصادي في ثلاثينيات القرن الماضي آثار مُدمّرة على الصعيدين الوطني والدولي. تراجعتِ التجارة الدولية بشكل حادّ، وكذلك الدخل الشخصي، وعائدات الضرائب، والأسعار، والأرباح. ففي جميع أنحاء العالم، عانت مدن بأكملها ومناطق بأكملها من الجوع والتشرّد والبطالة والمرض.

أدّت هذه التغييرات الاقتصادية الدراماتيكية إلى ظهور حركات اجتماعية كبيرة، ما شكّلَ ضغطاً على الحكومات للتخفيف من معاناةِ المواطنين. في الولايات المتحدة الأميركية، استجابت الحكومة الفيدرالية للصفقة الجديدة وبموجَبِها خلقت “إدارةُ تقدم العمل” (WPA) وظائفَ للعاطلين عن العمل، ومنحت “إدارةُ الضمان الاجتماعي” رواتبَ شهريةً لكبار السن الذين يمتلك كثير منهم القليل من المال فقط أو لا يملكون أي أموال. وطمأنت “المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع” (FDIC) الأميركيين القلقين بأنهم يمكن أن يثقوا في البنوك لإيداع أموالِهم. كانت هذه الابتكارات الاجتماعية مدفوعةً بدور الحكومة الواسع والمباشر في حل المشكلات الاجتماعية، وحدثت وسط مناخ من الشك والعداء بين القطاعات.

في العقود الأخيرة، كانت الاتجاهات السائدة التي تُشكّل الابتكارات الاجتماعية مختلفةً كثيراً. هاجم الرئيس رونالد ريغان في خطابه الافتتاحي عند توليه منصبه في عام 1981 فكرةَ أن الحكومة يمكنها أو ينبغي لها أن تكون الوسيلة الأساسية لحل المشكلات الاجتماعية: “في هذه الأزمة الحالية، الحكومةُ ليست الحل لمشكلتنا؛ الحكومةُ هي المشكلة”. ثم شَرَعَت إدارتُه في إنهاءِ برامجَ مثل قسائم الطعام، و”ميديكيد”، وبرنامج “مساعدة العائلات التي لديها أطفال بحاجة إلى الإعالة” (AFDC). كما أزالت القيود عن قطاعات واسعةً من الاقتصاد بما في ذلك شركات الطيران والشاحنات والمدخرات وصناعات الإقراض.

يستمر تفويض الخدمات العامة للقطاع الخاص وغير الربحي حتى هذا اليوم. تديرُ المنظمات الربحية والمنظمات غير الربحية على نحو متزايد المدارس المُستأجَرَة، وتقدّمُ الرعاية الصحية، وتدير دور رعاية المسنين، وتنقل الناس من لوائح مُستفيدي الرعاية الاجتماعية إلى العمل، مثلما تفعل “إدارة تقدم العمل”. توفّرُ “بلاك ووتر وورلد وايد”، على سبيل المثال، خدمات عسكرية، وتوفّرُ مجموعة مدارس “إديسون” خدماتِ التعليم.

في الوقت نفسه، ازداد الضغط على القطاع الخاص بشكل كبير للنظر في التأثير الاجتماعي لسلوكه. تم استخدام مصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) على نطاق واسع منذ الستينيات. ومع ذلك، لم يكن الأمر كذلك حتى أواخر الثمانينيات عندما تبنت شركات مثل “بودي شوب” (Body Shop) و”بين آند جيريز” (Ben & Jerry’s) و”باتاغونيا” (Patagonia) رؤية فعّالة لمصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات “اعتبرت أعمالها وسيلةً لكسب المال ووسيلةً لتحسين المجتمع”. لقد تقبّلت المزيد من الشركات الآن هذه النظرة الطموحة لدور الشركات في المجتمع، بل وتَبنَّتها.

منذ ولاية ريغان تغيرت المنظمات غير الربحية والوكالات الحكومية أيضاً بشكل كبير، إذ أدى الطلب المتزايد على خدمات المنظمات غير الربحية، إلى جانب تقلصِ موارِدِ التمويل العام للمنظمات غير الربحية، إلى قيام العديد من المنظمات بالبحثِ عن دخل مُكتسب من خلال المشاريع التجارية. نقلت المنظمات غير الربحية والحكومات أيضاً توجُّهاتها إلى الأعمال التجارية للعمل بشكل أكثرَ كفاءةً.

على مدار الثلاثين عاماً الماضية، حسنت المنظمات غير الربحية والحكومات والشركات تقديرها لمدى تعقيد المشاكل العالمية مثل تغير المناخ والفقر. لقد أدرك الكثيرون أيضاً أن هذه المشكلات تتطلب حلولاً متطورة؛ نتيجة لذلك، نرى بشكل مُتزايد أن القطاعات الثلاثة تتضافرُ معاً لمعالجة المشاكل الاجتماعية التي تؤثّرُ علينا جميعاً.

أدت مجموعة من العوامل إلى تلاشي الحدود بين القطاعات غير الربحية والحكومية والتجارية. في غياب هذه الحدود؛ تتدفَّقُ الأفكار والقيم والأدوار والعلاقات ورأس المال الآن بحرية أكبر بين القطاعات. هذا التخصيب بين القطاعات المختلفة هو الأساسُ لثلاثِ آليات أساسية للابتكار الاجتماعي: تبادل الأفكار والقيم، والتغييرات في الأدوار والعلاقات، ودمج رأس المال الخاص مع الدعم العام والخيري.

تبادل الأفكار والقيم

عندما تم عزل المنظمات غير الربحية والشركات والحكومات نسبياً، ظلت أفكارها أيضاً مغلقةً داخل جدران قطاعاتهم. نادراً ما كانت المنظمات غير الربحية تُناقشُ الإدارة أو التشريع، ونادراً ما كانت الشركات تسعى إلى إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية، وكانت اتصالاتها مع الحكومة غالباً عدائيةً. كما فرضت الحكومات الضرائب على الأعمال التجارية ونَظَّمَتها وسلّمَتِ المسؤولية عن العديد من الأمراض الاجتماعية إلى المنظمات غير الربحية.

بالرغم من ذلك، تطلّعَ قادة المنظمات غير الربحية والحكومية في السنوات الأخيرة إلى الشركات للتعرّفِ على الإدارة وريادة الأعمال وقياس الأداء وتوليد الإيرادات. وسعى قادة الحكومات والأعمال إلى الحصول على حكمة المنظمات غير الربحية في القضايا الاجتماعية والبيئية، والتنظيم على مستوى القاعدة، والعمل الخيري، والدعوة لنُصرةِ القضايا. كما انخرط قادة الأعمال والمنظمات غير الربحية مع الحكومات لتشكيل السياسة العامة. نتيجة لتبادل الخبرات ظهرت مجموعة من الابتكارات الاجتماعية.

نذكرُ على سبيل المثال الاستثمار ذو المسؤولية الاجتماعية (SRI)؛ إذ يأخذ (SRI) بعين الاعتبار العواقب الاجتماعية والبيئية والمالية للاستثمارات، ويطبِّقُ أخلاقيات القطاع غير الربحي على القرارات المالية البحتة: مثل الاستثمار. من الأمثلة المبكرة على (SRI) في الولايات المتحدة حظر منظمة “كويكر” للاستثمارات في قطاع تجارة الرقيق في خمسينيات القرن الثامن عشر. حدث في الثمانينيات مثال آخر أكثر شهرةً في مجال الاستثمار ذو المسؤولية الاجتماعية عندما قام العديد من المستثمرين الأفراد والمؤسسات بالتخلص من ممتلكاتهم في الشركات التي تمارس أعمالاً في جنوب إفريقيا للاحتجاج على الفصل العنصري.

شهدت السنوات الأخيرة نمواً هائلاً في قيمة أصول الاستثمار ذو المسؤولية الاجتماعية ووضوحها، فبين عامي 1995 و2005، ارتفعت الاستثمارات ذات المسؤولية الاجتماعية أكثر من 258% وقفزت من 639 مليار دولار إلى 2.29 تريليون دولار، وفقاً لمنتدى الاستثمار الاجتماعي. في العامين الماضيين، ارتفعت أصول الاستثمارات ذات المسؤولية الاجتماعية بأكثر من 18%، في حين ارتفعت جميع الأصول الاستثمارية المُدارَةُ بنسبة تقلّ عن 3%.

يتخذ الاستثمار ذو المسؤولية الاجتماعية (SRI) ثلاثة أشكال: فحص الاستثمارات (الاستثمار فقط في الشركات التي تفي بمعايير اجتماعية أو بيئية مُعيّنة)؛ الاستثمار المجتمعي (توجيه رأس المال إلى المجتمعات المحرومة)؛ ونشاط الشركاء المساهمين (محاولة التأثير على السلوك الاجتماعي أو البيئي للشركات من خلال إجراءات حوكمة الشركات).

على الرغم من الشكوك بشأن أداء أموال (SRI) فإن هذه الظاهرة تُسلطُ الضوء على التقارب بين القطاعات، إذ يسعى الأفراد والمؤسسات إلى إحداث تغيير اجتماعي من خلال أسواق رأس المال. يُطبّقُ نشاط الشركاء المساهمين أسلوباً قديماً لتأديب الرؤساء التنفيذيين للشركات الذين يُدمّرون قيمةّ الشركاء المساهمين من أجل تأديب أولئك الذين يُدمّرون القيمة الاجتماعية.

بدون نقل هذه الأفكار والقيم الأساسية، لن يكون الاستثمار ذو المسؤولية الاجتماعية (SRI) موجوداً، ناهيك بالتأثير على عملية صنع القرار في الشركة التي كانت تمتلكه. فمن خلال (SRI) استفاد المستثمرون الكبار والصغار من قوة أسواق رأس المال لإجبار الشركات الحديثة على النظر في الآثار الاجتماعية لسلوكهم، ما يساهم في نمو ابتكار اجتماعي آخر – أي ظهور المسؤولية الاجتماعية للشركات.

يشكر المؤلفون جيفري براداش، وجيه. غريغوري ديس، وسام كانر على تعليقاتهم المفيدة على المسودات السابقة للمقال، وأليسون ستيوارت ولياني ماتاساوا ميتز على مساعدتهم البحثية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.