ما أهمية الإنصات بعمق للتغيير الاجتماعي؟

ستانفورد أهمية الاستماع بالتغيير الاجتماعي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يطمح معظم القادة في القطاع الاجتماعي للعمل بشكل متعاون مع الأشخاص الذين يعملون لخدمتهم. لدفع تغيير الأنظمة، تحتاج المؤسسات غير الربحية والممولون أن يفهموا الأشخاص المختلفين عنهم وأن يُضمّنوا وجهات نظر المجموعات المتنوعة من أصحاب المصلحة في عملية صناعة القرار الخاصة بهم. يمكن لمثل هذا النهج أن يساعد القادة على فهم العالم من خلال فهم العلاقات وتعقيد الأنظمة. تشير الأبحاث إلى أن أولئك الذين يستثمرون في جهود الاستماع والمشاركة يميلون إلى تكوين ممارسات مُنصفة بشكل أكبر، وهذه الممارسات تنضوي على التزام أكبر بالشمول وتشكل تأثيراً إيجابياً على المشاركين وأفراد المجتمع الذين يصبحون أكثر قدرة على الدفاع عن أنفسهم ومطالبهم أو مساءلة المسؤولين الرسميين.

في عام 2020، تسببت جائحة كوفيد-19 واحتجاجات الحقوق المدنية ضد التمييز العرقي في خلق وعي أكبر حول المظاهر المتقاطعة لعدم المساواة والتفاوتات في السلطة بين قادة التغيير الاجتماعي ومُستَفيديهم، وبين فاعلي الخير والمؤسسات غير الحكومية التي يدعمونها، وبين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة الملونة الذين يعملون ضمن ذات المؤسسات. جرت العادة أن العمل الخيري والريادة الاجتماعية يعملان وفق نهج تنازلي. وقد أقرّ القادة من مختلف القطاعات أنهم يحتاجون إلى تعلم الإنصات والاستماع بفعالية أكبر للتواصل مع أصحاب المصلحة وفهم احتياجاتهم.

قال دارين ووكر، رئيس مؤسسة فورد (Ford Foundation)، في بيان حول رؤيته للأعمال الخيرية لعام 2019: “نحن نعلم أن المجتمعات الأكثر قرباً من المشاكل تمتلك رؤية فريدة للحلول. ولهذا السبب … يجب علينا التأكد أن الأشخاص المتأثرين بعملنا لهم رأي في تصميمه وتنفيذه”.

إن الإنصات بعمق أمر أساسي لفهم حاجات المجتمع وأصحاب المصلحة. هذا النهج – الذي يُشار إليه أيضاً باسم الاستماع النشط، أو الاستماع التأملي، أو الاستماع الراديكالي – يتميز بالطريقة التي يدخل بها المستمعون إلى المحادثة ويشاركون فيها. ففضولهم وتعاطفهم واحترامهم للمتحدث ووعيهم الذاتي بمعتقداتهم وتحيزاتهم، كلها عوامل تؤثر على قدرتهم على الاستماع بعمق والتواصل بشكل أصيل مع المتحدث، بحيث يمكنهم استخلاص مشاعر المتحدثين والمعنى الحقيقي لكلماتهم.

في هذا المقال، أشرح نهج الاستماع العميق وأتناول التحديات التي قد تقف أمام ممارسته. بالاستلهام من خبرات رواد الأعمال الاجتماعيين والفاعلين الخيريين، بالإضافة إلى أبحاثي وممارساتي الخاصة، تستكشف أبواب هذا المقال مبادئ الاستماع الفردي. ومع ذلك، يمكن تطبيق بعض هذه الطرائق على صعيد المؤسسات، لا سيما في الممارسات التي تتضمن أشخاصاً وأطرافاً عدة. تمت مشاركة المزيد من الأفكار حول مجال الاستماع المؤسسي من قبل أستاذ الاتصالات العامة جيم ماكنامارا، في جامعة التكنولوجيا في سيدني، والذي حدد عمله الرائد الإخفاقات العشرة الشائعة في الاستماع المؤسسي وتصحيحاتها.

وعلى الرغم من أن الاستماع العميق ليس ضرورياً في كل محادثة، قد يجد القرّاء أنهم يرغبون في تضمين عناصره ضمن نطاق واسع من النقاشات – سواء مع الشركاء، أو المستفيدين، أو الزملاء، أو حتى مع عائلاتهم. إن الممارسة لا تتطلب من المستمع أن يتفق مع رسالة المتحدث؛ بل عوضاً عن ذلك، يجب على المستمع فقط أن يتعرف ويفهم وجهة نظر المتحدث. لذلك فإن هذا النهج هو أداة فعالة في المواقف التي يقف فيها المتحدث والمستمع على طرفين متعاكسين حول قضية ما وفي المواقف التي تكون فيها ديناميكية السلطة غير متساوية.

الانتباه والنية

المكون التأسيسي لمنهج الاستماع العميق هو كيفية حضور المستمع للمناقشة – من حيث نيته ونوع الانتباه الذي يوليه للمتحدث. حيث إن دخول المناقشات بتواضع هو طريقة بسيطة إلا أنها قد تكون حاسمة للغاية للمساعدة على خلق نقط التقاء أكثر عمقاً.

يجب على المستمع أن يبدأ بالعمل الداخلي في سبيل ضبط نيته وانتباهه. فالاستماع العميق هو ممارسة مكتسبة لا يمتلكها معظم الأشخاص بشكل فطري؛ حيث أوضح باحثو علم الأعصاب الإدراكي أن أدمغتنا تعمل على استخلاص المعلومات الأساسية غير المصقولة وإجراء تقييم سريع لأي شخص جديد نلتقي به من خلال الاعتماد على تجاربنا السابقة. وبذلك يكون المستمع قد كوّن عن شخص ما حكماً ما، حتى قبل أن ينطق هذا الشخص بكلمة واحدة. ومن المرجح أن تكون هذه الأحكام المسبقة أكثر تطرفاً إذا اعتقد المستمع أن المتحدث مختلف عنه – بسبب أن المتحدث يبدو بمظهر مختلف أو يأتي من بيئة مختلفة.

تعيق هذه الاختصارات الإدراكية قدرة المستمع على الدخول في النقاش بعقلية مفتوحة تماماً للاستماع، خاصةً عندما يمتلك مشاعر قوية بشأن ما تتم مناقشته، ووفقاً لعالمي النفس أكيفا ليبرمان وشيلي تشايكن، فالمستمع في هذه الحالة يسجل فقط المعلومات التي تدعم معتقداته. للتغلب على هذه التحديات، يجب على المستمعين أن يضعوا أنفسهم، في موضع الشخص “غير العارف“، على حد تعبير مدرب التواصل والتأمل الواعي مارتن فوغل – وذلك لإرجاء التوقعات حول ما قد يقوله المتحدث.

إن الأبحاث والمقالات الأكاديمية والأدبيات الأشمل حول الاستماع، غالباً ما تحثّ المستمع على عدم إصدار الأحكام تجاه المتحدث. ومع ذلك، فقد جادل غاري فريدمان، وسيط حل النزاعات والمدرب المخضرم في الاستماع العميق، بأن هذه التعليمات ليست فعالة لأن الأحكام هي الآليات التي نستخدمها لفهم العالم. بدلاً عن ذلك، فهو يدعو المستمع إلى الالتفات إلى الداخل ومحاولة إدراك أية تحيزات و/أو مشاعر قوية قد تنتابه ناجمة عن ما يسمعه. يسمح هذا التقييم الداخلي للمستمع بالتعرف على تأثير تلك الأحكام على وجهات نظره وتقبلها والتخلص منها، والانفتاح لسماع قصة الشخص الآخر وقبولها.

يساعد هذا العمل الداخلي التمهيدي في تهيئة المساحة لإجراء محادثة صادقة. يقول كيناري ويب، الرئيس التنفيذي للمؤسسة البيئية غير الربحية هيلث إن هارموني (Health In Harmony)، التي تستخدم الاستماع العميق مع مجتمعات السكان الأصليين في المناطق التي تعاني من الإزالة الجائرة للغابات: “عندما تكون في حالة انسجام مع نفسك ولا تتصارع معها، فإن هذا النوع من الشعور الداخلي – المتمركز والهادئ والحاضر للاستماع حقاً – يساعد الجميع على الشعور بأنهم مسموعون ومُرحّب بهم ويجعلهم على استعداد للتعبير عن أنفسهم”. يؤكد خبير الاستماع أفراهام كلوغر أيضاً على أن إظهار الضعف بصدق يساعد في خلق شعور بالأمان: “لقد تعلمت أنه إذا كنتُ شجاعاً بما يكفي لمشاركة نقطة ضعف لدي، فهذا يوضح إلى حد ما أنني متصالح مع نفسي، وأنني أستطيع قبول الآخرين، بغض النظر عن مدى غرابتهم بالنسبة لي، مثلما أنا على استعداد لقبول أوجه غرابتي”.

يجب ممارسة الاستماع العميق عن سبق قصد ونيّة، حيث يحتاج المستمع إلى مخالفة طريقة العمل المفضلة للدماغ من خلال الاختصارات الإدراكية والتحيزات المستندة إلى التجارب السابقة. وبدلاً عن ذلك، يحتاج المستمع إلى إظهار فضول صادق ويمكنه اتّباع الخطوات الست التالية لإظهار نواياه واهتمامه:

خذ الوقت الذي تحتاجه. امنح نفسك وقتاً لتصبح واعياً بنواياك قبل أي مواجهةٍ – سواء كنت تسعى للتأثير على المحادثة أو جمع المعلومات أو إقامة علاقة. قد ترغب في السيطرة على المحادثة لاكتشاف ما تعتقد أنت، المستمع، أنك بحاجة إلى معرفته. تتطلب ممارسة الاستماع العميق التخلي بشكل مؤقت عن أجندتك الشخصية من أجل الانفتاح لقبول المتحدث والاستماع إلى ما يعتبره هو مهماً.

تخلص مما يشتت انتباهك. كن على دراية بأي شيء قد يشتت انتباهك، مثل هاتفك المحمول أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى. اضبط هذه العناصر على الوضع الصامت وضعها بعيداً عن الأنظار حتى تتمكن من منح اهتمامك الكامل للمتحدث.

قم بتقييم حالتك الذهنية. كن مُدركاً لمستوى انتباهك الحالي. هل تشعر أنك مُشتّت الانتباه؟ أو منزعج؟ أو متحمس؟ لاحظ مكان ظهور هذه المشاعر في جسدك، ثم تنفس بعمق، واسمح لها بمغادرة جسمك أثناء الزفير.

تحقق من وسائلك الدفاعية. ذكر نفسك أنه من الآمن إلقاء درعك النفسي – فلا داعي للدفاع عن نفسك أو أن تكون دفاعياً في محادثة. أقرّ لنفسك أن هذه المحادثة قد تغيّرك بطرائق لا يمكنك التنبؤ بها أو التحكم فيها.

اشعر بالمساحة المحيطة بك. اشعر بانفتاح المساحة أمامك، ومن حولك من خلال رؤيتك المحيطية، ومن فوقك، وعلى الأرض تحت قدميك. اشعر بالجاهزية للترحيب بالشخص الآخر ككيان كامل في فضاء ستبتكرانه معاً.

ثق بنفسك. ثق بأنك قادر على فهم الشخص الآخر بالكامل – ليس من خلال براعتك الفكرية، بل عبر أن تكون منفتحاً فكرياً وعاطفياً.

أجرت عالمة النفس مونيشا باسوباثي تجارب توضح آثار الانتباه لسرد المتحدث. في إحدى التجارب، كان المستمع مشتت الانتباه بمهمة أخرى، مثل عد كلمات المستمع التي تبدأ بالحرف “ت”. تشير أدلة باسوباثي أنه عندما ينصت الأشخاص بانتباه دون أن يكون انتباههم مشتتاً، فهم يبدون للمتحدث كأنهم يدعمون ما يعبر عنه. وبدوره، يمكن لمفهوم الانتباه هذا تمكين المتحدثين من مشاركة قصص أكثر تماسكاً، بالإضافة إلى سرد مزيد من التفاصيل حول قصصهم، ومشاركتها لفترة أطول من الوقت.

إن الاستماع ليس تمريناً سلبياً. فعلى سبيل المثال، أظهر بحث أجرته عالمة النفس جانيت بافيلاس أن الاستماع في الوقت الحقيقي هو عملية نشطة يشارك فيها المستمع السرد مع المتحدث. يحدث هذا الإبداع المشترك من خلال قناة ردود مضمنة، سواء اللفظية أو غير اللفظية منها.

الأدوات غير اللفظية

تتطلب طريقة الاستماع العميق من المستمع أن يتفحص كلاً من سلوكه والطريقة التي يتلقاه فيها المتحدث. حيث يمكن لتعابير الوجه، مثل الابتسام والعبوس، أن تؤثر في اختيار المتحدث للكلمات وكيف يقرر إكمال قصته، إن قرر إكمالها أساساً. وفي تجربة أجراها عالم النفس الاجتماعي كاميل بيوكبوم، كان المشاركون الذين ناقشوا مقطع فيلم مع مستمعين مبتسمين أكثر ميلاً لتقديم تفسيرهم الخاص لأن تعبيرات الوجه الإيجابية شجعتهم على الشعور بالقبول والفهم. وعلى النقيض من ذلك، كان المشاركون الذين تحدثوا إلى مستمعين عابسين قد حدّوا ما شاركوه بالرسالة الوظيفية للفيلم – العناصر الواقعية والملخص – لأنهم شعروا بأنهم أقل أماناً وبالتالي كانوا أقل استعداداً لمشاركة المزيد من وجهات النظر الشخصية.

إن أجسادنا تشير لنا وللشخص الذي يحاورنا سواء أكنا نستمع بعمق أم لا. قد نكون حاضرين بأنفاس سريعة، متحمسين للاعتراض والتدخل، أو بأنفاس أعمق وأبطأ مما يشير إلى أننا هادئون وصبورون ومُستقبِلون لما نسمعه. يمكن للمستمع أن يميل إلى الأمام لإظهار الاهتمام، أو أن يتخذ وضعية مفتوحة تدل على التقبل، أو أن يتبنى موقفاً منغلقاً من خلال مقاطعة ذراعيه لإظهار موقفه الدفاعي. علاوة على ذلك، فإن الحفاظ على الاتصال البصري مع المتحدث لا يمكّن المستمع فقط من التقاط إشارات في إيماءات المتحدث، مثل عض الشفة السفلية أو حركات العين القلقة، ولكنه أيضاً ينقل الانتباه والاحترام.

الصمت أداة قوية غير لفظية تسمح للمتحدث بالراحة والتفكير، لأنه يقلل من ردود الفعل الفزيولوجية التي تتداخل مع التفكير الانعكاسي. فالاستماع المتعاطف يعني إفساح المجال للصمت بعد أن ينتهي المتحدث من الحديث؛ وهذا بدوره يهيء الظروف لكل من المتحدث والمستمع أن يتفكرا في صياغة ردودهما أكثر. وجد بحث جديد في مجلة علم النفس التطبيقي أجراه عالم النفس الاجتماعي جاريد آر. كورهان وعلماء السلوك التنظيمي جينيفر آر. أوفربيك، ويري تشو، وتينغ زانغ، ويو يانغ، أن توجيه أحد الأشخاص أو كليهما في المفاوضات الثنائية لاستخدام الصمت الممتد يعزز التحول من التفكير الثابت الافتراضي النقضي إلى إيجاد حلول أكثر إبداعاً. يُظهر هذا البحث أيضاً أن الناس يبالغون في تقدير عدد الثواني التي يقضونها صامتين، مما يشير إلى أن المستمعين قد يحتاجون إلى عد ثوان الصمت قبل أن يستجيبوا.

إلا أن الصمت ليس دوماً أداةً بنّاءة. فهو يمكن أن يُستخدم أيضاً للحطّ من الشخص المقابل أو تجاهله أو للإشارة إلى الاختلاف في الرأي. فعندما لا يرغب المستمعون بسماع أو مناقشة ما يقوله المتحدث، يمكنهم إلغاء صوت المتحدث أو تجاهله عن عمد. كما يمكن للمستمع غير المستجيب أيضاً أن يعكس أنه غير مهتم، مما يؤدي إلى إسكات المتحدث بشكل فعال. وإليكم النصائح الست التالية لممارسة الاستماع العميق غير اللفظي التي تستند إلى العمل الداخلي والإدراك الذاتي:

لاحِظ الأحكام. كن على دراية بأية أحكام قد تكون لديك بشأن الشخص الذي يتحدث وما يقوله. ولاحظ ما إذا كانت لديك رغبة في تغيير الشخص الآخر، ثم تخلص من هذه الأفكار.

ركز على نفسك. كن واعياً لنبرة صوتك، ولاحظ ما يحدث عندما تسمح لنفسك باستمداد السكون الذي بداخلك.

راقب حركات جسدك. خذ وقتاً في التفكير في جسدك، لتصبح مدركاً له ولحركاته. كيف تتواصل باستخدام جسدك، وبأنفاسك، وبوضعية كتفيك ويديك؟

حافظ على التواصل البصري. إن النظر إلى المتحدث يُظهر له أنك مهتم بما يقوله. عندما تجري المحادثات بشكل افتراضي، يكون الاتصال البصري أكثر صعوبة، لأنك إذا كنت تنظر إلى الكاميرا، فلا يمكنك أيضاً النظر إلى المتحدث ومراقبة لغة جسده.

تمرّن على الصمت. عد إلى 10 بعد أن ينتهي المتحدث من إيصال فكرته قبل أن ترد على ما قاله.

جسّد الصمت الداعم. حاول تجسيد صمت صبور داعم، بدلاً عن الصمت المعترض أو غير المهتم.

إعادة طرح الأفكار نفسها من منظورك الشخصي

إن الإشارات غير اللفظية مهمة ولكنها ليست كافية. يمكن للمستمع أن يثبت أنه سمع ما قاله المتحدث من خلال تلخيص رسالة المتحدث وإعادة طرحها بصياغته الشخصية منطلقاً من هذا المعنى لتأكيد التفاهم المتبادل. يمنح هذا الأسلوب المتحدث فرصة لتوضيح أفكاره، والبناء على ما قاله، والتوصل إلى فهم أعمق يمكنه بعد ذلك مشاركته مع المستمع.

تتطلب هذه الممارسة من المستمع استخدام كل حواسه وقدرته على التفكير والتعاطف لفهم ما يقوله المتحدث بشكل كامل. بعد ذلك، يجب على المستمع تحديد النقاط الأكثر بروزاً في قصة المتحدث ثم توصيل تفسيره للمتحدث للتحقق مما إذا كان قد فهمها بشكل صحيح. يتضمن عكس المعنى الأساسي لكلمات المتحدث التركيز على الكلمات المنطوقة بطاقة وانفعال وتكرارها، فضلاً عن الكلمات المشحونة عاطفياً. يجب أن يولي المستمع اهتماماً خاصاً لاستخدام المتحدث للغة التصويرية، مثل الاستعارات وصيغ المبالغة وصيغ التفضيل – وكلها تشير إلى أن معنى هذه الكلمات يحمل أهمية بالنسبة للمتحدث.

تتيح المحادثة للمستمع فرصاً متعددة ليعكس المعنى مرة أخرى للمتحدث. ويمكن مقابلة عكس المعنى هذا بواسطة توكيد المتحدث لفهم المستمع، أو تصحيحه أو الإسهاب في شرحه. فالحوار الذي يهدف إلى توضيح المعنى ينجح في خلق فهم مشترك عندما يؤكد المتحدث ما تمت إعادة طرحه عليه. يمكن للمستمع بعد ذلك المتابعة بأسئلة – مثل “هل فاتني أي شيء؟” أو “هل يمكنك إخباري بالمزيد؟” – لإظهار الاهتمام بالمتحدث، وكذلك لتشجيعه على التفصيل والتعمق أكثر في سرد قصته. فالتحقق من المتحدث من خلال تلخيص ما سمعه المستمع يمكّن المتحدث من التعبير عن قصته بطريقة مختلفة أو فهمها بشكل مختلف كنوع من العملية المتصاعدة، عبر مقاربة الفروق الدقيقة ووجهات النظر المختلفة في كل تكرار، مما يخلق صورة أكثر ثراءً لكل من المتحدث والمستمع.

خلال عملية الاستماع العميق، يجب على المستمع أن يعكس فهمه ليس فقط لمعنى مضمون ما سمعه بل أيضاً لفهمه الشخصي لمشاعر المتحدث. وهذا النوع من عكس المعنى يتطلب تلخيص مشاعر المتحدث من خلال تقييم تعابير وجهه، ونبرة صوته، وسرعة حديثه، ومستوى طاقته. إذا فشل المستمع في عكس الحالة العاطفية للمتحدث – حتى لو تمكن من استيعاب المعنى تماماً – فمن غير المرجح أن يشعر المتحدث بأنه مسموع حقاً، كما يوضح المحلل النفسي دونيل ستيرن: “نحن بحاجة إلى الشعور بأن الآخر الذي نشغل تفكيره يستجيب لنا عاطفياً، وأنه يهتم بما نختبره وكيف نشعر تجاهه”. وبتعبير آخر، فإن عكس فهمنا للمشاعر يوضّح التعاطف.

إن إعادة الصياغة لا تتطلب أن يتفق المستمع مع المتحدث. بدلاً من ذلك، فهي تعكس احترام المستمع للمتحدث ورغبته في فهم رسالته ونيّته. فعلى سبيل المثال، أثناء أجرائي لتقرير لقناة البي بي سي، تحدثت مع مزارعي الألبان على الحدود الإنجليزية الويلزية الذين كانوا متشككين بشأن التغير المناخي، وكنت مدركاً أنني أختلف مع وجهة نظرهم. إلا أنني تمكنت من توظيف هذا الإدراك لتغذية فضولي لفهم معتقداتهم. وبذلك أظهرت إحساساً بالاحترام من خلال تنحية أحكامي جانباً واتخاذ وضعية مفتوحة تشير لتقبّل الآخر. حاولت أن أُظهر التعاطف الذي، وفقاً لعلماء النفس كارل روجرز وريتشارد فارسون في مقالتهم بعنوان “الاستماع النشط“، هو ضروري للتواصل الفعال – وهو السلوك الذي يعوض عن القول “أنا أحترم أفكارك، وحتى إذا لم أتفق معها، أعلم أنها مُحقّة بالنسبة لك”.

وإليك ستة نصائح مخصصة لعكس الأفكار:

أنصت للأدلة المفتاحية. استمع بعمق لما يقوله المتحدث. أنصت إلى ما يبدو أنه أكثر أهمية للمتحدث باستخدام الأدلة المفتاحية: الاستعارات وصيغ التفضيل، والكلمات التي يقولها بطاقة وحماس، والكلمات المشحونة عاطفياً.

استشعر جوهر الكلام. عندما ينتهي المتحدث من التحدث، خذ بعض الوقت لاستشعار الرسالة الجوهرية في ما سمعته. اختبر ما شعرت به أثناء حديثه وما تفسره على أنه المعنى الكامن وراء الكلمات.

بلور الجوهر. قم ببلورة ما تعتقد أنه جوهر ما شاركه المتحدث معك. وقم بتضمين المشاعر التي ربما عبر المتحدث عنها بشكل غير لفظي.

قم بعكس الأفكار. اعرض بتواضع تلخيصك لمعنى الحديث ولمشاعر المتحدث.

تحقق من فهمك. تحقق مع المتحدث للتأكد من أنك تفهمه تماماً. إذا قال المتحدث لا أو ردّ بنعم مترددة، اسأله عما فاتك أو عما أخطأت فهمه.

كرر الخطوات. استمر في عكس الأفكار مرة أخرى حتى تحصل على تأكيد صريح من المتحدث. يمكنك بعد ذلك طرح أسئلة إضافية لتعميق فهمك لقصتهم – اسأل “ماذا يمكنك أن تخبرني عنه أكثر؟” بدلاً من “ماذا يمكنك أن تخبرني أيضاً؟”

مد جسور الوصل بين الانقسامات

يمكن أن يكون الاستماع العميق فعالاً بشكل خاص عندما يقف المتحدث والمستمع على طرفي نقيض من قضية ما. فهو أداة فعالة لأولئك الذين يعملون في حل النزاعات ولردم الانقسامات الأيديولوجية أو الاجتماعية.

إن شعور الأشخاص بأنهم مسموعون يقلل من القلق الاجتماعي لديهم بشكل كبير ويدعو المتحدثين إلى الانخراط في تأمل نفسي أعمق ويزيد من وعيهم الذاتي، مما قد يؤدي إلى سلوكيات أقل تطرفاً، وذلك وفقاً لبحث أجراه علماء السلوك التنظيمي غاي إيتزاكوف، وأفراهام كلوغر، ودوتان كاسترو. في إحدى التجارب، قرؤوا مقالاً عن موضوع مثير للجدل لمجموعة من الطلاب الجامعيين. ثم تم إقران نصف الطلاب بمستمع يستخدم أسلوب الاستماع العميق، بينما تم مطابقة النصف الآخر مع مستمع قليل الخبرة. وجد الباحثون أن الاستماع العميق جعل الطلاب أقل تطرفاً في مواقفهم، وأكثر قدرة على فهم طرفي النقاش، وأكثر وعياً بتناقضاتهم الداخلية – بغض النظر عما إذا كان الموضوع هو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو فرض الضرائب على الوجبات السريعة، أو القتل الرحيم.

في ذروة الدورة التدريبية الافتراضية على الاستماع العميق التي قدمتها لـ 150 شخصاً في لبنان في عام 2021، أُتيحت الفرصة لكل مشارك لممارسة النهج مع مشارك آخر لديه وجهة نظر معارضة حول قضية تحمل خلافاً. شاركت لولو، إحدى المشاركات، كيف ساعدت عملية عكس الأفكار على تقليل الانقسام الأيديولوجي بينها وبين محاورها. وقالت: “أدركتُ أننا كلما أعدنا صياغة ما يقوله الآخر، كنا ندرك أن ما يقولونه ليس خاطئاً تماماً وليس صادماً. هذه [التجربة] ستجعلني بالتأكيد أقل عناداً في النقاشات المستقبلية”.

لنتمكن من الاستماع بعمق رغم الانقسامات، نحتاج إلى التنقل في التفاعل بين قدرتنا التحليلية وعواطفنا. في كتاب “غرباء في بلادهم” (Strangers in Their Own Land)، تشرح عالمة الاجتماع آرلي راسل هوتشيلد أن “جدران التعاطف” هي “عقبة أمام الفهم العميق للشخص الآخر، والتي يمكن أن تجعلنا نشعر باللامبالاة أو حتى العدائية تجاه أولئك الذين لديهم معتقدات مختلفة أو الذين تكون طفولتهم متأصلة في ظروف مختلفة”. لعبور هذا الجسر، يحتاج كل شخص إلى فهم كيف يعيش الآخرون ويختبرون العالم. فعلى سبيل المثال، في إطار جهودها لفهم مؤيدي حركة حفل الشاي في لويزيانا، تصف هوتشيلد العلاقة التي أقامتها مع أم عزباء من أصحاب البشرة البيضاء تدعى شارون، كانت قد سمحت لهوتشيلد بمراقبة عملها في بيع بوليصات التأمين الطبي. اكتسبت هوتشيلد ثقة شارون من خلال الطريقة التي استمعت بها إلى قصص وتجارب شارون. وتشرح الأمر قائلة: “اتضح لي أن نوع التواصل الذي قدمته شارون كان أثمن مما كنت أتخيله في البداية. لقد شيد الدعائم لبناء جسر التعاطف. نحن، على كلا الجانبين، نتخيل خطأً أن التعاطف مع الجانب الآخر يضع حداً للتحليل الصريح، في حين أنه في الحقيقة يمكن أن يبدأ التحليل الأكثر أهمية على الجانب الآخر من ذلك الجسر”.

توجد بالطبع تحديات كبيرة أمام الاستماع بعمق إلى الأشخاص الذين لديهم آراء ومعتقدات معارضة لنا، مثل الانزعاج الذي نشعر به عندما نسمع معلومات تتعارض مع ما نعرفه أو نؤمن به. إن الجلوس مع هذا الانزعاج وإثبات التعاطف مع المتحدث يحمل في طياته إمكانية لتغييرنا وتغيير هويتنا وما نؤمن به، الأمر الذي يجد فيه البعض نوعاً من المخاطرة. وكما يقول روجرز وفارسون: “يتطلب الأمر قدراً كبيراً من الأمن الداخلي والشجاعة لنكون قادرين على المخاطرة بأنفسنا في سبيل فهم الآخر”.

العوائق أمام مد جسور الوصل بين الانقسامات

يجب على قادة القطاع الاجتماعي المنخرطين في التغيير الاجتماعي وتغيير الأنظمة الاستماع بعمق إلى أولئك الذين تم استبعادهم من السلطة على مر الزمن. وهذا الإلزام مُحق بشكل خاص في الأعمال الخيرية الأميركية، حيث 92% من رؤساء المؤسسات الأميركية، و 83% من الموظفين التنفيذيين الآخرين العاملين بدوام كامل، و 68% من مسؤولي البرامج من أصحاب البشرة البيضاء. بالنظر إلى حجم الإقصاء وتحديات تأمين التمويل للأشخاص أصحاب البشرة الملونة، فإن الاستماع العميق ضروري لخدمة المستفيدين بشكل فعال وفهم احتياجاتهم.

ومع ذلك، توجد تحديات في الاستماع ما بين انقسامات السلطة. فعندما يكون المستمع في موقع أقوى – على سبيل المثال، أن يكون مبادراً اجتماعياً أو فاعل خير يقدم أموالاً أو خدمات لشخص يتحدث نيابة عن مجتمعه – فقد يحاول المستمع تجنب سماع الحقائق التي تتسبب له بعدم الارتياح. قد يطرح أسئلة مغلقة وقيادية ولا يترك سوى القليل من الوقت للرد لتجنب الكشف عن الحقائق و / أو الاحتياجات غير المرغوب فيها التي لا يمكنه الوفاء بها. في مقال بعنوان “الاستماع للأشخاص الأكثر أهمية، المستفيدون” (Listening to Those Who Matter Most, the Beneficiaries)، يشير خبراء العمل الخيري الفعال، فاي تويرسكي، وفيل بوتشانان، وفاليري ثريلفول، إلى أن الممولين “يخشون ما قد يقوله [المستفيدون] – وأنهم دون الاستفادة من ’الخبراء’ قد يكونون مخطئين أو يحصلوا على معلومات مضللة. ربما يخشى [المموّلون] أن نتعلم شيئاً يجعلنا نشكك في طريقة تنفيذنا للأمور”.

على العكس من ذلك، قد يكون المستفيدون – أو أولئك الذين هم في وضع أقل نفوذاً و / أو مالاً – يُشككون في نية المستمع واهتمامه. وقد لا يؤمنون أن المستمع يريد حقاً سماع وجهة نظرهم الصادقة، ولذلك قد يغيرون أقوالهم أو يلتزمون الصمت. أو قد يشعرون بأنهم مجبرون على مشاركة التقييمات الإيجابية فقط حتى يتمكنوا من تأمين تمويلهم أو خدماتهم أو الحفاظ عليها.

كيف يمكن معالجة هذه التحديات أثناء الممارسة؟ أمضت مونيكا نيرمالا، التي تعمل الآن مستشارة حكومية للاستجابة لجائحة كوفيد-19 في إندونيسيا، سنوات في ممارسة الاستماع العميق بصفتها المديرة التنفيذية لفرع هيلث إن هارموني في إندونيسيا. وتقول: “إن السلم التراتبي الوظيفي مهم للغاية في إندونيسيا. عندما يتحدث الناس إلى المسؤولين الحكوميين، فإنهم يميلون إلى قول الأشياء الجيدة والأشياء اللطيفة ولا يتحدثون عن المشاكل الحقيقية”. تغلبت نيرمالا على هذا الانقسام في السلطة بكونها “تستمع بنية محددة”، على حد قولها. “إذا أظهرت للناس أنهم يعرفون أفضل مني، وأن تجربتهم الحياتية ذات قيمة، ذلك يساعدهم على أن يكونوا صريحين بشأن المشاكل الحقيقية”.

على الرغم من أن كوننا أكثر إدراكاً للأفكار المسبقة والتحيزات يساعدنا في إدارة كيفية الاستماع والاستجابة، إلا أنه من الأسهل بناء الثقة إذا كان المتحدث والمستمع يتشاركان ذات الخلفية والثقافة و / أو اللغة. تقول ميغ بوستروم، الشريكة المؤسسة لشركة توبوس (Topos) للاتصالات القائمة على الأبحاث، إنه بالنسبة للمشاريع المتعلقة بالمساواة العرقية، فإن فريقها يحرص على تطابق الهوية العرقية للمستمع والمتحدث. وبالنسبة للمشاريع الأخرى، ترسل توبوس زوجاً من المستمعين – أحدهما بمنظور داخلي والآخر بمنظور خارجي للمشكلة – لإجراء البحث. وأيضاً، لمعرفة سبب قيام مجتمعات السكان الأصليين بقطع الغابات، ترسل هيلث إن هارموني زوجاً من المستمعين: شخص محلي يتحدث نفس لغة مجتمع السكان الأصليين المعني، وشخص من ثقافة مختلفة. تساعد وجهتا النظر معاً على توطيد الفهم المشترك – فالشخص الداخلي يعرف المصطلحات المحلية ويمتلك معرفة بالثقافة السائدة، مما يساعد على بناء الثقة، بينما يمكن للشخص الخارجي حث المتحدث على شرح الأشياء التي لم يقلها.

هناك مخاوف أخلاقية في كل حالات الاستماع العميق، لكنها توجد بشكل خاص عند وجود فرق كبير في السلطة بين المتحدث والمستمع، وخصوصاً عندما يقوم المستمع بإقامة المحادثة. وتبعاً لذلك، يجب أن يكون المستمع على دراية بمسؤوليته عن خلق بيئة ثقة يكون فيها المتحدث هشاً عاطفياً، كما يقول عالم النفس أليكس غيليسبي. ويمكن للمستمع تحقيق هذا الهدف عبر الحرص على امتلاك المتحدث نوعاً من التحكم بالمحادثة، وأن المستمع يعكس وجهة نظر المتحدث بصدق. ونستطيع تحقيق هذه الاحترازات عبر زيارة الناس في مناسبات عدة، وإعطائهم الوقت للتفكر بالمشاكل والتفكير فيما شاركوه سابقاً قبل الموافقة عليه.

الكشف عن سيناريوهات أعمق

تكمن قوة الاستماع العميق أيضاً في قدرته على الوصول إلى ما هو أبعد من شذرات المعلومات المريحة والسطحية التي يتم تقديمها غالباً كردود تلقائية على الأسئلة العامة. يمكن للاستماع العميق أن يكشف عن السيناريوهات المدفونة – حول المعرفة والتاريخ المؤسسي مثلاً – والتي هي ضرورية لفهم الأنظمة المعقدة، لأن هذه السيناريوهات هي ما تشكل الهويات وتنظمها.

إن فهم السرديات الأعمق للمجتمعات ذات التمثيل الضعيف خطوة مهمة في مواجهة التحديات التنظيمية المتعددة. فعلى سبيل المثال، في سبيل إيجاد الحلول لانبعاثات الغازات الدفيئة المتزايدة، نحتاج إلى فهم منطق الأشخاص المشككين في التغير المناخي والرافضين له. عندما استمعت إلى مزارعي الألبان، تمكنت من كتابة قصة عن “الرجال مجهولي الملامح في الأزقة المظلمة” الباحثين عن عنزة شاردة ويستولون على التي يعتبرها المزارعون المشتبه به المعتاد. عبر بعض هؤلاء المزارعين عن شعورهم بالغضب والإحباط بسبب افتقارهم إلى الوكالة وانعدام الثقة في السلطة العلمية. لقد فهموا تغير المناخ باعتباره أحدث عذر لإلقاء اللوم عليهم، حيث تم إلقاء اللوم عليهم في الماضي بسبب خلق مجموعة من الأمراض التي انتشرت في المجتمع، من التسبب في السرطان إلى انتشار مرض السل البقري.

الوقت عامل أساسي في عملية الاستماع العميق. عندما نصغي إلى شخص ما، غالباً ما يكون لدينا سؤال نبحث عن إجابته أو موضوع معين نريد جمع المزيد من المعلومات عنه. وبالرغم من أن المحادثات المتكررة على مر الوقت مع العديد من الأشخاص في المجتمع من المرجح أن تستخرج روايات أكثر ثراءً وصدقاً، فإن هذا العمل المكثف ليس عملياً دائماً. فبغض النظر عن الوقت المتاح لك، عليك أن تكون شفافاً مع الأشخاص الذين تتحدث معهم، وأن تطرح عليهم السؤال الأوسع الذي تسعى إلى الإجابة عليه، ثم امنحهم الفرصة لصياغة ردودهم.

ممارسة هذا النهج

من أجل أن يتمكن الاستماع العميق من إحداث تغيير منهجي، يحتاج الناس إلى تعلم كيفية ممارسة هذا النهج، بشكل فردي وجماعي. ووفقاً لكلوغر: “إن ما هو أساسي في عملية تدريب الأشخاص على كيفية الاستماع بعمق هو منحهم تجربة أن يتم الاستماع إليهم بعمق”. إن التفكير في التجربة المتجسدة بالشعور بأنهم مسموعون والانغماس فيها يمكن المستمع من فهم قوة الاستماع العميق بشكل فعلي، وبالتالي يمكنه من ممارسته بنفسه.

يمكن إجراء تدريب الاستماع العميق في مجموعة من السياقات، بما في ذلك السياقات التي تقوم فيها مؤسسة غير ربحية أو شركة بتدريب فرقها لفهم عملائها أو زبائنها بشكل أفضل. بروكسيميتي ديزاين (Proximity Design) هي شركة اجتماعية مقرها ميانمار تصمم منتجات لمساعدة المزارعين في الأرياف على زيادة دخلهم، وتعمل على تدريب هؤلاء المزارعين على تقنيات تتنوع من تنقية البذور إلى مضخات المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية. ولفهم احتياجات مزارعي الأرياف، يحضر فريق المبيعات برنامجاً تدريبياً مدته ثلاثة أسابيع يتضمن ممارسة الاستماع ولعب الأدوار. يركز البرنامج على مهارات الاستماع العميق مثل عكس الأفكار، والتمهل قبل الإجابة، وتعلم أن تكون مرتاحاً مع الآخرين الذين يشاركون مشاعرهم. تقول مؤسسة الشركة ديبي أونغ دين: “لقد أعدنا صياغة علاقتنا مع المزارعين الصغار من خلال معاملتهم على أنهم عملاء رياديون وأذكياء يريدون امتلاك حرية الاختيار والكرامة ويحتاجون إلى التركيز والاهتمام. إن أمر مهم أن يشعر الناس بأنهم مسموعون”.

يمكن حتى لمقدار محدود من تدريب الاستماع العميق أن يُحدث فرقاً. لقد قمت بتدريب 200 شخص من مجتمعات متنوعة على الاستماع العميق لبضع ساعات في مهرجان “BBC Crossing Divides” في مانشستر في المملكة المتحدة، في أوائل عام 2020. بعد التدريب، شعر 73% من المشاركين بمزيد من الثقة تجاه التحدث إلى الأشخاص الذين يختلفون معهم، وشعر 76% منهم بمزيد من التعاطف تجاه هؤلاء الأشخاص. ونظراً لأن معظم ممارسي الاستماع يدعون إلى نشر هذا التدريب مع الوقت حتى يتمكن المشاركون من التفكير والتمرن بين الجلسات، فقد قمت بإطالة مدة الدورة إلى ثلاثة أسابيع عندما قدمت تدريب الاستماع العميق الافتراضي للمقيمين في لبنان هذا العام. وقد لاحظ الميسرون الذين راقبوا وساعدوا المحادثات في غرفة الاجتماعات الفرعية تقدماً ملحوظاً. ففي الجلسة الأولى، كان المشاركون “يدلون بتعليقات”، و “يقاطعون”، و “يتجاهلون” الأساليب؛ ولكن بحلول الجلسة الأخيرة، كانوا أكثر حرصاً على إعادة صياغة الأفكار للمتحدث لتمييز ما إذا كانوا قد فهموها بشكل صحيح. كما أصبح المشاركون أكثر انفتاحاً لسماع وجهات النظر المختلفة. قبل التدريب، اختار 21% من المشاركين أنهم موافقون بشدة على أنهم كانوا قادرين على الاستماع إلى شخص لديه آراء مختلفة دون مقاطعته. بعد الجلسات التدريبية الثلاث، اختار 58% أوافق بشدة على هذا البند.

كم من الوقت يستغرق التدريب على الاستماع العميق ليصبح فعالاً؟ “هل يمكننا تدريب شخص ما في 10 دقائق؟ أجل. هل ستكون مدة 10 سنوات أفضل؟ بالتأكيد”، كما تقول وسيطة حل النزاع، كاثرين كونر. “عندما نقوم بتدريب الأشخاص، فإننا نعتبر ذلك بمثابة جلسة تعريفية مع بعض الممارسة الأولية”.

يجسد الاستماع العميق طريقة للحياة، طريقة يمكننا تطبيقها يومياً مع الآخرين، انطلاقاً من الاعتراف الأساسي بإنسانيتهم وكرامتهم. إنه نهج يمكن لقادة التأثير الاجتماعي الاستفادة منه لتحقيق طموحاتهم لإحداث تغيير في الأنظمة، ويمكن للصحفيين استخدامه لفهم المجتمعات المحلية ذات التمثيل الضعيف بشكل أفضل. تعتبر ممارسة الاستماع العميق مهمةً بشكل خاص في سياق حيث المواطنون يخشون من حدوث انقسامات سياسية أكبر وحيث أصبحت الآراء المتطرفة أكثر هيمنة. حيث يمكن لنهج الاستماع العميق أن يعزز محادثات أكثر صدقاً وأصالة حتى نفهم بعضنا البعض بشكل أفضل – وهي خطوة أولى ضرورية نحو خلق مجتمع أكثر تماسكاً ومرونة.

تتقدم المؤلفة بالشكر لكل من ساهم في كتابة هذا المقال: الأستاذ الجامعي أفراهام كلوغر الذي حضرت وتحدثت في دورة الماجستير التي أقامها حول الاستماع، وغاري فريدمان وكاثرين كونر اللذين حضرت دورتهما حول وساطة حل النزاع التي أدارتها مؤسسة SolutionsJournalism.org. بالإضافة إلى أولئك المقتبسين في المقال، تود المؤلفة أيضاً أن تشكر أولئك الذين قدموا وقتهم لمشاركة الأفكار: مضيفة البودكاست راكيل آرك؛ وتشارلي بيكيت، أستاذ الإعلام بكلية لندن للإعلام؛ ومدير معهد مارشال بكلية لندن للإعلام ستيفان تشامبرز؛ ومدير مركز مورتون دويتش الدولي للتعاون وحل النزاعات بيتر كولمان؛ والمديرة المساعدة لصندوق عائلة روكفلر، جولي فرنانديز؛ ورئيسة مؤسسة جذور التعاطف ماري غوردون؛ وغاي إتزاكوف من جامعة حيفا؛ ورئيس قسم الاستماع في JoConnect، كورين يانسن؛ ومؤسس مؤسسة فوسلات، فوسلات دوغان سابانسي؛ وأماندا ريبلي؛ وآندرو شيريدان وديفيد نوكس من المجلس الثقافي البريطاني؛ ودوغلاس ستون من كلية هارفارد للحقوق؛ وماثيو تايلور، الرئيس التنفيذي لاتحاد NHS؛ وفريق مور إن كومون (More in Common) و فريق الرؤى السلوكية؛ وكل من ساهم في تدريبها على الاستماع العميق.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.