خوارزميات للسعادة: كيف تحافظ الحكومات على سبل جودة الحياة على أراضيها؟

السعادة
shutterstock.com/Maridav
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يميل الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم “سعداء” إلى الازدهار بسلوكياتهم الإيجابية بين المحيطين بهم، كما يمتازون بإنتاجية عالية ونجاح باهر، وآليات تكيف فعّالة مع كل الأمور التي قد تطرأ على حياتهم، وقد أثبت استطلاع السعادة العالمي في عام 2020 الذي شمل 27 دولة حول العالم، أن 6 من أصل 10 أفراد يمثلون 63% من البالغين يشعرون بالسعادة الحقيقية على الرغم من تداعيات جائحة “كوفيد-19”.

لكن هل يمكن أن تكون تلك النتائج الخاصة بسعادة الإنسان ترجع إلى أسباب معينة بينما الواقع يختلف تماماً، فرُب ابتسامة زائفة تعطي للمجتمع أملاً كاذباً بسعادة الفرد، فضلاً عن أن النجاح لا يمكنه أن يعتبر سبباً في شعوره بالازدهار.

“مررت بوقت اعتدت فيه الظن أنني أتمتع بخفة ظل واضحة، لكن اليوم أثبت خلاف ذلك”؛ تلك الجملة الشهيرة من الفيلم الكوميدي “السيدة داوتفاير” (Mrs. Doubtfire)، ترددت أصداؤها كثيراً في أغسطس/ آب 2014، خاصة بعد انتحار بطل الفيلم “روبن ويليامز” الأشهر في عالم الكوميديا. فالضحكة التي رسمها على وجوه الملايين حول العالم تبدلت بين عشية وضحاها.

برصيد يزيد على 70 فيلم، و100 عمل درامي، رحل “جني” مصباح علاء الدين الذي كان يبحث عن حريته بعد مسيرة بدأها منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عقب معاناة كبيرة لإثبات موهبته الكوميدية. وعكف الفنان “روبن ويليامز” على رسم الضحكة والابتسامة على وجوه العالم سواء من خلال أعماله الفنية، أو حضوره بالبرامج.

كان ويليامز يعمل ليلاً ونهاراً، وكان يتمتع بحماس قوي، وشخصية متلونة كالحرباء يمكنه العمل عليها لإنجاز شغف حياته، وهو التمثيل، وازدهرت أعماله كثيراً محققة النجاح تلو الآخر، بينما تخطت كل الحدود الجغرافية، لكن كل تلك الأمور لم تساعده في التخلص من أعراض الأمراض التي أصابته وأخفاها عن كل المقربين له، أو تساعده في التغلب على فشل مسلسل درامي واحد في مسيرته مقابل مئات الأعمال الناجحة. وكأن صورة كل المحبين حول العالم تبددت، وتبدلت بالظلام فقط، ليرحل بطريقة لم ينسها أحد، وتحوّلت ألقابه الكوميدية إلى لقب “الضاحك البائس“.

ولزيادة الأمر سوءاً، صرحت زوجته بعد رحيله أن السبب الأساسي لانتحاره لم يكن الاكتئاب فقط، بل إن الاكتئاب كان واحداً من 50 مشكلة أخرى عانى منها. الأمر الذي قد يؤكد أن السعادة أمر شخصي يعتمد على مدى انغماس الفرد في تطوير نظرته الإيجابية لذاته، والتمتع بالرضا وراحة البال؛ ما يعزز من شعوره بما يُسمى بالسعادة المستدامة.

ما الذي يدفع الأفراد للبحث عن السعادة؟

قد يمر السعداء بلحظات من الحزن بالفعل، لكنهم لا يقيمون سعادتهم بالمشاعر وحدها، بل يقيمون حياتهم بصفة عامة لتحديد مستوى سعادتهم بصورة أشمل. ومن المنطلق السابق ذكره، جاء السعي الحثيث للأفراد إلى السعادة، ومن توفرت لديه سبل السعادة بالفعل، بات خائفاً من خسارتها، وبالتالي شعر بتعاسة طوال الوقت، بسبب وهم افترضه داخل عقله. يقول “دانيال غيلبرت” (Daniel Gilbert)، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، في حديثه عن “السعي وراء السعادة” إن السعادة لم تكن شيئاً يجدر التفكير فيه أو الحديث عنه لدى الإنسانية في قديم الزمان؛ فعند توفر أبسط الاحتياجات التي تتمثل في الغذاء، والماء، والمسكن، والأمان، كانت هذه الحياة كافية لتعاش فقط، فالجميع خُلق ليعيش.

ربما تكون تلك الأسباب التي تعتمد عليها السعادة المستدامة هي التي جعلت بعض الحكومات في العالم مهتمة بتحسين مؤشرات السعادة لديها، والعمل على توفير كل مقومات السعادة للمواطنين من أجل مجتمع أكثر توازناً وازدهاراً، وهذا ما سبق أن ناقشناه في مقال “كيف يمكن للحكومات توفير السعادة للمواطنين؟“، وذلك من خلال ضمان حقوقهم الآدمية، بداية من توفير المياه النظيفة، وصولاً إلى تأمين الرعاية الصحية وتطوير الأدوية الخاصة بالأمراض المعدية، وما إلى ذلك.

لا تغرك مظاهر الاستمتاع بالحياة التي قد تجدها مؤخراً، ففي الوقت الذي يسعى فيه كل مواطن مصري إلى اقتناء أحدث الهواتف الذكية، حلت مصر في المركز 132 بين الدول الأكثر سعادة لتكون بين متذيلي الترتيب من 149 دولة حول العالم، وفقاً لتقرير السعادة العالمي عام 2021.

ولا تبدو العديد من الدول العربية في مأمن عن مؤشر التعاسة أبداً، نظراً لارتفاع نسب الفقر والبطالة والتضخم، حيث حلت الأردن في المركز 127، ولبنان في المركز 123، وتونس في المركز 122، بينما جاء العراق في المركز 118، ولم تبتعد الجزائر كثيراً، إذ احتفظت بالمركز 109، والمملكة المغربية في المركز 106، أو بعض الدول التي لم تلحق حتى بالترتيب مثل اليمن، وسوريا؛ ما يجعل السعادة في الوطن العربي من العملات النادرة التي قد يتمتع بها الأفراد.

لكن هناك بصيص أمل ظهر بين هذه الأرقام الخاصة بالتعاسة، فالبحرين جاءت في المركز 22، والإمارات العربية المتحدة جاءت في المركز 25، تليها المملكة العربية السعودية، التي تعتبر من أكثر دول العالم تفاؤلاً بنسبة 75%. إذاً، الأمر ليس بالعسير.

تمكين المجتمعات من السعادة وجودة الحياة

تلك الدول العربية التي ارتفع فيها مؤشر السعادة، تأخذ الأمر بجدية، لتوفير احتياجات المواطنين والمقيمين على أراضيها، على سبيل المثال: تعمل دولة الإمارات على توفير السعادة للمواطنين والمقيمين لضمان توفير الرخاء والرفاهية، فبعد إضافة حقيبة جودة الحياة الوزارية إلى السعادة، فإنها تعتمد على تطوير الخدمات الذكية بما يخدم صالح الأفراد، ومن ثم، الوصول إلى أعلى درجات السعادة، أو الامتنان الذي يمكّن الفرد من استحضار السعادة بالفعل، فضلاً عن مواكبة التطور التكنولوجي الذي يعيشه العالم، عن طريق الخدمات الإلكترونية الذكية، وهو ما أكده أيضاً تقرير “مؤسسة دبي للمستقبل” بعنوان: “الفرص المستقبلية: 50 فرصة عالمية“، الذي اعتمد على مراجعة وتحليل أكثر من 100 دراسة وتقرير وكتاب ومقال، وإجراء مقابلات واجتماعات عبر الإنترنت لمناقشة أسئلة تتعلق بمستقبل النمو والرخاء والسعادة، وكشف عن اتجاهات كبرى مرتبطة بالمستقبل يمكن أن تتغير نتيجة التحولات التكنولوجية والانكماش الاقتصادي.

يتضمن التقرير 11 فرصة لتمكين المجتمعات، تشمل دور الحكومة في تطوير التشريعات وتحقيق متطلبات الأفراد وتلبية احتياجاتهم، وضمان سلامة وخصوصية البيانات الشخصية، وإطلاق ميثاق عالمي يحدد المبادئ المتعلقة بتطبيقات الهندسة الجينية وعلوم الجينوم، ووضع إطار يحدد حقوق الروبوتات بالتكامل مع حقوق الإنسان، وتوفير الطاقة الكهربائية لكافة المجتمعات وتقليل تكلفتها، ومساعدة الدول في مواجهة تأثيرات ظاهرة التغير المناخي.

كما تتضمن توظيف التكنولوجيا الحديثة في تطوير عملية التعليم، وتطوير نظام تعليمي مشترك يُطبّق في جميع أنحاء العالم لتعليم المهارات المستقبلية لمئات ملايين الطلاب بشكل متسق، إلى جانب تعزيز قدرة البشر على العيش في استقلالية كاملة، وتعزيز مستويات سعادة الشعوب من خلال تبني تقنيات وأدوات التنبؤ بالاحتياجات والتطلعات، وتحديد المواهب ومساعدتها على الابتكار والوصول إلى الفرص المناسبة.

خوارزميات السعادة

لطالما ارتبطت السعادة بالاختيارات الحياتية، وقد تكون سلوكاً بعينه، لكن حرية اتخاذ هذه القرارات ترتبط جزئياً بالقدرة على اتخاذ القرار الأفضل من بديلين أو أكثر من البدائل الممكنة، لذا يؤكد تقرير مؤسسة دبي للمستقبل، أنه يمكن مساعدة الناس في اتخاذ قرارات حياتية تؤدي إلى السعادة، بالاعتماد على الحوسبة الكمومية التي تعتبر نموذجاً حوسبياً نظرياً يتم من خلاله معالجة البيانات وعمليات الحوسبة من خلال قوانين الكم، إضافة إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي المتقدم، ومجموعات البيانات الضخمة.

ومن شانها، أن تحسّن هذه النماذج من قرارات الأفراد، وفق المواقف التي يمرون بها، وذلك عن طريق ما أطلق عليه التقرير “خوارزميات للسعادة“، حيث يمكنها أن تحد من الانهيارات العاطفية والمالية الناشئة عن قرارات خاطئة، حيث يمكن الاستفادة من التكنولوجيات لمحاكاة الدماغ الذي يحتوي على 86 مليار خلية عصبية يتصل كل منها بنحو 7 آلاف خلية عصبية أخرى بالجسم. وقد تسخر هذه المحاكاة قوة العقل الجماعي لحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، كما تساعد صانعي السياسات في فهم السياسات الاجتماعية، وبالتالي تحسين النتائج المتوقعة؛ ما يسهم في دعم استقرار المجتمعات ومرونتها، على الرغم من المخاطر التي تواجههم بتلف البيانات العرضي، أو حدوث نتيجة غير متوقعة عند إزالة عنصر “الصدفة”، إذ لن يدرك الناس أنهم قد يفوتون مفاجآت سعيدة.

تحقيق الذات

يُنتظر من الحكومات مساعدة المواطنين في تطوير ذاتهم، باعتماد القوانين المناسبة، وذلك بعد تلبية احتياجاتهم الأساسية، ومن هنا، جاءت فكرة وزارة تحقيق الذات التي اقترحها التقرير السابق ذكره، فإن كانت السعادة تركز على تعزيز المشاعر الإيجابية، فإن تحقيق الذات يعتمد على محاولة الأفراد لأعلى مستويات تقبل الذات، وفهم الغاية من الحياة، واكتشاف المواهب، إضافة إلى تكوين روابط اجتماعية، وقدرت قيمة سوق التطوير الشخصي العالمية، وضمنها منطقة الشرق الأوسط، بنحو 28 مليار دولار في عام 2019، ويتوقع أن تنمو بمعدل نمو سنوي مركب يتجاوز 5% ليصل إلى 57 مليار دولار بحلول عام 2027.

لذا فإن المبادرات الخاصة بهذه الوزارة المقترحة ستهدف إلى دعم رفاه الأفراد وتشجيع التفاعل الإيجابي، والانخراط بدور فعّال في المجتمع وقد تبحث الحكومات عن حلول سياسية لدعم جهود الأفراد لتحقيق الذات عبر اتباع نهج متعدد التخصصات. وقد يشمل ذلك دعم مبادرات تطوير الذات والتعلم مدى الحياة والتطوير الوظيفي والمشاركة المجتمعية والأنشطة الثقافية والرياضية، بالاعتماد على معايير جديدة لقياس النمو.

يعلمنا التاريخ أن الخيال الإنساني لا حدود لإبداعاته وابتكاراته التي تحقق قفزات غير متوقعة في مسيرة التنمية البشرية، وربما يختلف منظور العالم إلى الرخاء بحلول منتصف القرن الحالي، يقول محمد عبد الله القرقاوي، نائب رئيس مجلس الأمناء والعضو المنتدب لمؤسسة دبي للمستقبل: “سوف يكون للحكومات والمؤسسات والشركات والعلماء دوراً تشاركياً وتكاملياً في تحويل الفرص المستقبلية إلى واقع”.