قصص من أوكرانيا وسوريا وإفريقيا تُظهر تطور الابتكار الاجتماعي في الأزمات

الابتكار الاجتماعي في الأزمات
shutterstock.com/mady70
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

“لا أريد مغادرة وطني، هنا يقطن والدي، وهنا سألد طفلي”، هذه الكلمات أرسلتها آنا من لفيف، إلى جيني باورز في الولايات المتحدة، التي تذكرت متابعتها لاصطفاف للأوكرانيين أمام الصراف الآلي من شقتها في بروكلين، وهم على أمل أن يكون هناك ما يكفي من النقود.

اختارت جيني أن تخطط لأفضل رحلة لم تقم بها. اهتز الهاتف مع تذكير التقويم بالشقة التي حجزتها على منصة “إير بي إن بي” (Airbnb)، هذا الحساب الذي أنشأته في عام 2013، ومع ذلك لم تحجز أماكن إقامة قبل هذه الغرفة التي لم تخطط لاستخدامها. لم تهتم بالأشياء النموذجية؛ فقد كان مطلبها الوحيد هو مكان متاح. وعندما وجدته، حجزته سريعاً لمدة ليلتين بإجمالي 180 دولاراً، على أن تُوجّه الأموال إلى المضيف خلال يوم.

بعد الحصول على تأكيد حجزها، أرسلت جيني إلى مضيفتها آنا، مع أمنياتها بقبول مدفوعاتها كبادرة تضامن. لتتلقى الرد بعد ساعة من آنا التي لم تكتفِ بالامتنان، لقد أخبرتها أنها تعاني للحفاظ على البقاء، فمدينة لفيف التي تعرفها لم تعد كما كانت، لكنها لن تفر من أوكرانيا، فهي وطن أجدادها وابنها المستقبلي.

لم تكن جيني باورز الحالة الوحيدة التي قررت استغلال خدمة تأجير أماكن الإقامة، لتقديم التبرعات إلى أوكرانيا، فحالة ميغان بامفورد التي تعرف العديد من الأصدقاء الأوكرانيين في كندا مشابهة كثيراً.

تقول ميغان: “عرفت الأمان في كندا، ولا أستطيع تخيل الوضع في أوكرانيا، وإن أخبرتموني قبل سنوات أنني سأتمكن من إرسال 30 دولاراً من التبرعات لكل مكان محجوز على منصة تأجير أماكن الإقامة لكنت اعتقدت أن الأمر ضرباً من الجنون”.

الحرب لم تكن في الاعتبارات، وعندما اتخذت القوات الروسية مواقع على طول الحدود الأوكرانية، بذل الأوكرانيون قصارى جهدهم لإبراز مظاهر الحياة الطبيعية. وبعد حدوث الغزو، لم يهلعوا، لكن اُستبدلت حياتهم بهدوء مجهد ونبرة متشائمة، في حين قرر البعض حزم الأمتعة ومغادرة بلادهم.

هنا، أصبح المواطن الأوكراني لاجئاً يبحث عن الاستقرار، لم يعد الطموح العملي أو التفوق العلمي من أولوياته، بل بات الحفاظ على سلامة عائلته هو أقصى أمانيه.

التحويل النقدي

قيل قديماً “لا يمكنك أن ترى النجوم إلا في الظلام”، وهكذا يبدو أن الوضع المأساوي لأوكرانيا، قد أظهر أن الأفكار وليدة الألم والإحساس بضرورة دعم الإنسان لأخيه الإنسان؛ فخلال الأسابيع الماضية، توجه آلاف الأشخاص إلى منصة تأجير السكن “إير بي إن بي” (Airbnb) لحجز أكثر من 60 ألف ليلة في أماكن إقامة بأوكرانيا، بهدف استخدام الخدمة كآلية للتحويل النقدي.

نشأت هذه الفكرة من منصة “تويتر” في بداية مارس/ آذار، عندما شارك أحد المستخدمين رؤيته لدعم الأوكرانيين عن طريق حجز غرف على “إير بي إن بي” كمساعدة فورية للمتضررين. بدوره، استجاب بريل تشيسكي، الرئيس التنفيذي للمنصة على الفور، وأرسل إلى قادة بولندا وألمانيا والمجر، ليعرض المساعدة لإيواء اللاجئين الأوكرانيين.

استغل تشيسكي “تويتر” أيضاً للوصول إلى أكبر قاعدة جماهيرية، حيث أعلن عن نيته لتأمين المسكن مجاناً إلى 100 ألف أوكراني، وذلك في الوقت الذي عملت فيه المنصة كأداة تواصل للحفاظ على الحياة في زمن الحرب، ثم بدأت مرحلة جمع التبرعات دون رسوم.

الأفكار المتعلقة بتقديم التبرعات لدعم المجتمع الأوكراني لم تقف عند هذا الحد، بل أدت الابتكارات التكنولوجية دوراً محورياً، حيث جمعت مجموعة “بوسي ريوت” (Pussy Riot) الافتراضية العاملة بتكنولوجيا “التنظيم اللامركزي الآلي” (Decentralized autonomous organization)، تمويلاً يزيد على 6.5 ملايين دولار، كما جمعت الحكومة الأوكرانية وحدها حتى الآن أكثر من 30 مليون دولار، وفقاً لشركة تحليلات البلوك تشين “إيليبتيك” (Elliptic).

على الرغم من ذلك، فإن عملية تحويل الأموال إلى أوكرانيا تواجه عدة صعوبات، فالنقود تساعد في اقتناء ما يمكن شراؤه فقط. وقد كشف مقالمركز التنمية العالمي (Center for Global Development) عن احتمال زيادة نسبة التضخم نتيجة ارتفاع الأسعار، مع النقص الكبير في الإمدادات من غذاء وأدوية وكهرباء.

الأمر ذاته، أكدته مؤسسة “غو فوند مي” (GoFundMe)، موضحة أن نقل الأموال في أثناء الحرب يعتبر أمراً معقداً وينطوي على فحوصات قانونية، ما استوجب العمل عليه، حتى نجحوا في جمع تبرعات بلغت نحو 26 مليون دولار من 350 ألف مانح من 140 دولة لصالح الأزمة الأوكرانية، فيما قدّم لاري أليسون، الرئيس التنفيذي لشركة “أوراكل” (Oracle) وحده تبرعاً بقيمة 5 ملايين دولار. وحتى هذه اللحظة، فإن حملة “دعم أوكرانيا” #StandWithUkraine الهادفة إلى جمع 30 مليون دولار من التبرعات، يتبقى لها 3.8 ملايين دولار فقط للوصول إلى الهدف المنشود، متسلحة بقوة الهاشتاغ والتواصل الاجتماعي الذي يمكنه تغيير الأمور رأساً على عقب.

حملات شعبية واسعة

ما حدث في أوكرانيا ليس المثال الوحيد على تأثير “الابتكار الاجتماعي في الأزمات”، وكيفية استخدام التكنولوجيا لصالح المجتمع. فبعد أكثر من 10 سنوات من الحرب في سوريا، ونزوح 13 مليون شخص، من بينهم 6.6 ملايين لاجئ سوري، منهم العديد من الأطفال الذين كانوا ضحايا العنف. أشعلت استغاثة سورية مسنة في مخيم للنازحين مواقع التواصل ما دفع فريق ملهم إلى استخدام التكنولوجيا كوسيلة لتأمين المسكن إلى الأطفال الذين عرفوا مفهوم “بيت” للمرة الأولى، وبدؤوا البث المباشر لحملة “حتى آخر خيمة” بشكل متواصل لمدة 5 أيام في يناير/ كانون الثاني الماضي، بمشاركة المؤثرين السوريين، الذين أعلنوا دعمهم، ودعوا متابعيهم إلى المشاركة في إنهاء معاناة مئات العائلات في شمال غرب سوريا الذي يشهد انخفاضاً شديداً في درجات الحرارة، أسفر عن تضرر أكثر من 266 مخيماً، وفق إحصائيات فريق “منسقو استجابة سوريا”.

ويعمل الفريق حالياً وفق خطة تعتمد على نقل 600 عائلة من سكّان المخيمات الأكثر تضرراً من العواصف، علماً أنهم وفروا منازل لـ 584 عائلة بالفعل، وبلغ مجموع التبرعات الواردة للحملة أكثر من مليوني دولار.

إن الحملات الواسعة التي تُطلق من أجل دعم القضايا الإنسانية لا تنضب، ففي نهاية العام الماضي، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي، لجمع التبرعات من أجل فدية الطفل السوري فواز قطيفان، وبالفعل حققت الحملة الشعبية أهدافها، وتحرر الطفل بما يؤكد أن التواصل الخلاق يمكنه إنقاذ أرواح الملايين حول العالم، فوفقاً لمؤسَّسةوَن” (ONE)، يؤدي موقع “فيسبوك” دوراً حاسماً في تعريف الناس بالقضايا التي تُطرح.

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

تهتم المجتمعات الدولية بالأطفال في ظل المعاناة من آثار الحروب، وجاءت عدة مبادرات معتمدة على التكنولوجيا لتذليل العقبات سعياً لتوفير غدٍ أفضل لهم، فقد تدرّب 150 من المعلمين اللاجئين السوريين ضمن مشروع التكنولوجيا السحابية على كيفية التعامل مع الطلاب المصدومين، كما وفّر المشروع معدات تكنولوجيات المعلومات والاتصالات ووسائل الاتصال في 10 مدارس عن طريق جهاز خادم محلي سحابي، فضلاً عن الوصول إلى شبكة الإنترنت من خلال دفتر ملاحظات أو جهاز “التابلت”، إيماناً بقدرة التكنولوجيا على توفير تعليم جيد في مواقع اللاجئين، وهو ما أكدته مؤسسة “جيز” (GIZ)، في أطروحتها حول التعليم في أوضاع النزاع والأزمات.

الطائرات المسيرة في زمن الحروب

لا تفارق الأحلام أطفال اللاجئين بمستقبل واعد، والوضع كذلك بالنسبة لأطفال الروهينغا، لكن بالنسبة إلى أهاليهم فالخوف لا يفارقهم، قالت نور عايشة التي فرت بصحبة نجليها عندما كانت تستعد لاستقبال مولودها الثالث، إنها لا تعرف حتى أي عالم سيكبرون فيه، بعدما خسروا منزلهم المتواضع على البحيرة، ووالدهم الذي اعتاد صيد الأسماك لكسب قوت يومه.

منذ عام 2017، شهد العالم واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية وحشية، التي هرب على إثرها الروهينغا من اضطهاد جيش ميانمار، لتستقبل بنغلاديش أكثر من 600 ألف نازح. ولم نكن لنعلم مدى الدمار الذي عاصروه من منازل وقرى محترقة، لولا صور الأقمار الصناعية ولقطات الطائرات المسيرة، والمقاطع الصوتية والمرئية المتداولة على وسائل التواصل. الأمر ذاته يحدث الآن في أوكرانيا أيضاً، فبعد أن كان عشاق الطائرات المسيرة يستخدمونها في تصوير حفلات الزفاف وإقامة السباقات، شكّلوا قوات متطوعة لمساعدة بلادهم في صد الغزو. وعن هذا الأمر يقول دينيس سوشكو، رئيس العمليات في شركةدرون يو آيه (DroneUA) لتكنولوجيا الطائرات المسيرة إنه لا يوجد خيار آخر سوى التكاتف.

لكن هل كان تأثير ذلك واضحاً؟

بالطبع، فهذه الأمور التي تُكسب الابتكار الاجتماعي قيمته في وقت الأزمات، إذ استطاعت “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، تجميع البيانات عن الروهينغا من خلال تطبيق الهاتف الذكي لجمع البيانات، فضلاً عن الاستعانة بالطائرات المسيرة لتحديد أماكنهم وتقييم احتياجاتهم ومعرفة أفضل طريقة لإرسال المساعدات، وثمة مفارقة عجيبة في الأمر خاصة أن الطائرات المسيرة المزودة بالصواريخ اُستخدمت لأغراض عسكرية سابقاً، لكن في الوقت الحالي يعمل كل شخص ما في وسعه لتقديم يد المساعدة، وهو ما أكده دينيس سوشكو، الذي تسلق شجرة للحصول على استقبال أفضل للتحدث مع وكالة “أسوشيتد برس” (The Associated Press). تشكل الطائرات المسيرة أداة مهمة للحصول على البيانات حالياً، وهناك عدة حيل تسمح بزيادة مستوى الأمان عند استخدامها غير المتوقع في زمن الحرب. لذلك، تعتبر الأزمات مجالاً دائماً لظهور الابتكار الاجتماعي وتعزيز أدواته التكنولوجية، وهذا ما تؤكده أيضاً دراسة تابعة لـ “المنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر” بعنوان “استخدام التكنولوجيا في مساعدة اللاجئين“، فقد ساعد التقدم التكنولوجي على توفير الرعاية الصحية بشكل أسهل مما كان سابقاً، سواء عن طريق حفظ السجلات الصحية للاجئين المرضى وأرشفتها، أو توفير فرص العمل بمجال التعليم التكنولوجي.

الاستخدام الاستراتيجي للبيانات

بمعدل يفوق 84 مليون لاجئ حول العالم في عام 2021، دفعتهم الصراعات إلى مغادرة منازلهم، شهدت إفريقيا أوضاعاً صعبة. كان الهروب من جنوب السودان إلى أوغندا الخيار الأمثل بالنسبة إلى آشان -75 عاماً- حيث وفرت لها فرصة للمعيشة وتعليم الأطفال بعدما خسرت 7 من أبنائها بسبب العنف، لكن الأمور لم تكن أفضل بالنسبة للإرتريين اليائسين الذين لجؤوا إلى إثيوبيا فوجدوا أنفسهم محاصرين في إقليم تيغراي، ومع متابعة الأمم المتحدة لأوضاعهم بالأقمار الصناعية، وجدت أن المخيمات التي كانت تأوي الآلاف منهم قد أُحرقت تماماً. إذن، كيف أسهمت المتابعة المبكرة من الأقمار الصناعية واستخدام التكنولوجيات في إنقاذ حياتهم؟

يذكرنا مصطلح “التكنولوجيا الإنسانية” (Humanitarian Technologies) بأهمية ذلك، وكيف يمكن إحداث التغيير عن طريق اكتشاف الأزمات الإنسانية ومعالجتها، فعلى سبيل المثال، اشترك “معهد الطفل المحتاج” (Child In Need Institute) في الهند مع شركة “أكسنتشر لاب” (Accenture Labs) للخدمات الرقمية، لتطوير تطبيق “قوة الفتاة” (Girl Power) المعتمد على توظيف البيانات، والحوسبة السحابية للوصول إلى النساء المحتاجات إلى الحماية والدعم الصحي والتعليم، وخلال عام واحد أنقذ بالفعل أكثر من 200 فتاة من إمكانية الإتجار بهنّ، لذا ظهرت بعض التوصيات بالقضاء على قيود استخدام التكنولوجيات الإنسانية، حتى تسمح للضحايا والحكومات ووكالات المساعدة الإنسانية باستخدامها وفقاً لمبدأ البيانات المسؤولة، الذي بموجبه يُخطط لجمع البيانات وتخزينها واستخدامها لغرض محدد وحذفها بمجرد تحقيقه.

وهذا أيضاً ما ظهر جلياً عندما عملت حركة “علم البيانات من أجل الصالح الاجتماعي” (Data science for social good)، على إنشاء مجموعات بيانات متعلقة بالقضايا الاجتماعية، مثل البنية التحتية للرعاية الصحية، والتسجيل في المدارس، وجودة الهواء، وسجلات المؤسسات؛ بحيث تكون متاحة للمؤسسات الموثوقة أو الجمهور، وقد بدأت شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل “فيسبوك” و”أمازون” تبنّي الحركة.

الأمر لا يتعلق بالتكنولوجيا في حد ذاتها، وإنما يتمثل باستخدامها الاستراتيجي، وسبق أن تناولنا ذلك في مقال “كيف يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان؟“، حيث استخلصت مؤسسة “آي دي إنسايت” (IDinsight) من 120 حالة لأبحاث “الأمم المتحدة” أن الاستخدام الاستراتيجي للذكاء الاصطناعي في 30 مجالاً، يمكنه معالجة المشكلات الاجتماعية.

لا شك في أن الابتكار يمكّنك من رؤية ما لا يراه الآخرون، وميزته الأساسية أن الإبداع يختلف من شخص إلى آخر. وفي الوقت الراهن، تواصل المؤسسات والأفراد على حد سواء، التفكير للخروج بالحلول الإبداعية لدعم القضايا الاجتماعية، وبدأت حركات التغيير بشأن “الابتكار الاجتماعي في الأزمات”، بمساعدة الناجين المعرضين للعنف، وتأمين لكية المساكن بين الفقراء ومجتمعات الأقليات مدفوعة بالحاجة إلى تعزيز المسؤولية الاجتماعية بنجاح.