كيف تضمن الزراعة العمودية مستقبل الأمن الغذائي؟

الزراعة العمودية
shutterstock.com/Rostov Oleksandr
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ارتفع متوسط أسعار الغذاء العالمية بمعدل 2.6% سنوياً في العقدين الماضيين. وإذا استمر الأمر كذلك، فلن يهدد فقط نوعية الحياة الأساسية بحيث يُصرف المزيد من الدخل المتاح على الغذاء، لكنه أيضاً سيهدد أمننا الغذائي العام.

كمجتمع عالمي، نحن على معرفة بمشاكل المجاعات وسوء التغذية المستمرة، خصوصاً في الدول النامية، لكن مشاكل سوء توزع الغذاء ترتبط أيضاً بأحداث العنف والشغب السياسية. وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي التابع لـ “الأمم المتحدة”، أدى الارتفاع القياسي في أسعار المواد الغذائية خلال عام 2008 إلى أعمال شغب في 48 دولة، بما في ذلك بعض الدول الهشة مثل الصومال واليمن. يعكس ارتفاع تكاليف الغذاء الاتجاهات الأساسية التي تؤدي إلى فشل الزراعة التقليدية. وقد توفر الزراعة العمودية (وهي نموذج زراعي مدفوع بالتكنولوجيا)، وسيلة لمعالجة الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي في السنوات المقبلة، حتى لو لم تؤثر على أسعار المواد الغذائية في الأشهر العديدة المقبلة.

لماذا تحبطنا الزراعة التقليدية؟

تتطلب الزراعة الحقلية عمالة بشرية، وظروفاً مناخية ملائمة، وتحتاج إلى أشعة الشمس الكافية لعملية التمثيل الضوئي، والري، ومبيدات الآفات في كثير من الأحيان لحماية المحاصيل. لم يتغير ذلك، ولكن يمكننا اكتشاف أسباب عدم كفاءة الزراعة التقليدية بالشكل الذي كانت عليه من قبل، باستخدام إطار عمل قمنا بتطويره. ففي حين أن اقتصادات العالم قد يبدو أنها تتأثر بشكل كبير بأحداث غير متوقعة، فإن إطار عمل (DRIVE) يعتمد على فكرة أن بعض العمليات المترابطة الواسعة النطاق، التي تدفع سلوك الشركات والحكومات والمجتمعات، تؤثر أيضاً على المستقبل. حيث يمكننا التنبؤ بكيفية تطور المستقبل من خلال تحليل التغيرات الديموغرافية والاجتماعية، وندرة الموارد، وعدم المساواة، والتقلب، والحجم، والتعقيد. وعند تحليل هذه العوامل معاً، يمكن لهذه الاتجاهات الكبرى أن تكشف عن الأسباب الجذرية للتحولات في الزراعة التقليدية.

التغيرات الديموغرافية والاجتماعية

لا يمكن للإمدادات الغذائية العالمية مواكبة تزايد عدد سكان العالم. وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة لـ “الأمم المتحدة“، يجب زيادة إنتاج الغذاء بنسبة 70% قبل عام 2050 من أجل تلبية الاحتياجات الغذائية العالمية. كما يجب أن يحدث هذا النمو في مواجهة ظروف معاكسة – حيث يستحوذ التوسع الحضري على الأراضي الصالحة للزراعة ويدفع الناس في الوقت نفسه للابتعاد عن الزراعة كمهنة.

ندرة الموارد

تستهلك الزراعة ما يصل حتى 70% من الاستهلاك العالمي للمياه، بالإضافة إلى تكاليفها الكلية. وبالنظر إلى التوقع التقريبي الذي يتنبأ أن نصف سكان العالم سيعانون من ندرة المياه بحلول عام 2030، نجد أن طرق الإنتاج الزراعي هي طرق غير مستدامة. تؤدي أوجه القصور في سلسلة التوريد إلى تفاقم تأثير الندرة؛ حيث تتعرض المحاصيل القابلة للتلف للعيوب والتلف في أثناء الحصاد والتعبئة والمعالجة والتوزيع. ووفقاً لتقرير مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية حول الغذاء، يتم إهدار ما يصل إلى 40% من جميع المحاصيل في نهاية المطاف خلال رحلتها من الحقل إلى طاولة الطعام ثم إلى مكبات النفايات.

مظاهر عدم المساواة

بالإضافة إلى المشاكل المزمنة المتعلقة بسوء التغذية وانتشار الفقر في البلدان النامية، ظهرت أيضاً حالات عدم المساواة المتعلقة بأسعار الغذاء في البلدان الصناعية. ففي مناطق مثل الولايات المتحدة، دفعت الكلفة المرتفعة للطعام الطازج السكان ذوي الظروف المعيشية الصعبة إلى الاعتماد على الطعام المكرر المشبع بالدهون والسكريات مع قيم غذائية ضئيلة. وكنتيجة لهذه “الخيارات” الغذائية نلاحظ انتشار وباء السمنة على مستوى البلاد بالإضافة إلى زيادة الأمراض المرتبطة بالنظام الغذائي مثل مرض السكري. كذلك تسبب الأسر ذات الدخل المرتفع ازدياد الطلب على “الأطعمة الخارقة” الأكثر صحة مثل اللفت الغني بمضادات الأكسدة والكينوا المليئة بالبروتين. ومع استمرار ارتفاع متطلبات الغذاء وتكاليف الزراعة العالمية، فإن احتمالات تحسين ظروف الصحة والتغذية سيئة للغاية بالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض في البلدان الصناعية والنامية على حد سواء

التقلبات

لا تزال الزراعة من أكثر الصناعات المهددة بالكوارث الطبيعية؛ حيث تسبب التغير المناخي في تكرار المزيد من الظواهر الجوية القاسية، التي يمكن أن تلحق الضرر بقيمة موسم كامل من الحصاد. كما تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى انتشار آفات المحاصيل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر السياسات الحكومية أيضاً على إنتاج الغذاء وأسعاره. فعلى سبيل المثال، تسببت قوانين الولايات المتحدة بشأن إنتاج الإيثانول في تحويل الذرة المستخدمة في إنتاج الغذاء إلى وقود للإنتاج، وأدت إلى ارتفاع الأسعار من 2 دولار أو 3 دولارات إلى 7 دولارات للبوشل (حوالي 8 غالونات). وهذه القوى ومثيلاتها، التي تحدد توجه تقلبات الاسعار، موجودة لتبقى.

باستخدام إطار عمل (DRIVE) للنظر إلى الوضع الراهن، يمكننا رؤية كيف أن الزراعة التقليدية وحدها لن تكون مستدامة كمصدر موثوق به لإنتاج الغذاء بأسعار معقولة.

ولادة الزراعة العمودية لمواجهة التحديات القائمة

إن إحدى الإجابات عن مشاكل الإمداد الغذائي هذه تبدأ في القدوم من الهياكل العالية التقنية إلى طاولات الطعام لدينا. الزراعة العمودية، (المصطلح الذي صاغه ديكسون ديسبومير)، هي ممارسة إنتاج الغذاء في طبقات مكدسة رأسياً. تستفيد هذه “المزارع” من الهياكل المغلقة مثل المستودعات وحاويات الشحن لتوفير بيئة مُتحكم بها لزراعة المحاصيل في نظام زراعة مائية أو هوائية. تضمن الحساسات الإلكترونية حصول المحاصيل على الكمية المناسبة من ضوء (LED) والمغذيات والحرارة. وتشمل فوائد هذه الطريقة توقف الاعتماد على الأراضي الصالحة للزراعة، وسعات تنمية المحاصيل على مدار العام، واستهلاك كميات أقل من المياه، وتحسين القدرة على التنبؤ بالمحاصيل.

على سبيل المثال، صرّحت “أيروفارمز” (AeroFarms)، وهي مزرعة عمودية تبلغ مساحتها 70,000 قدم مربعة مُقامة في مصنع صلب تم تجديده في نيوجيرسي، أنها تمكنت من استخدام مياه أقل بنسبة 95% وتحقيق إنتاجية تزيد بمقدار 390 مرة على إنتاجية حقل زراعي تجاري بنفس المساحة. كما تبيع شركة “غروتينير” (Growtainer) حاويات شحن سهلة التشغيل بطول 20 أو 40 قدماً تم إنشاؤها كمزارع مائية معزولة. بهدف مساعدة المجتمعات على زراعة الخضار الورقية في نفس الأماكن التي سيتم استهلاكها فيها، مثل المدارس وبنوك الطعام والمطاعم والقواعد العسكرية.

يمكن أن تساعد المزارع العمودية على تلبية متطلبات النمو السكاني الغذائية عبر توفير طريقة رديفة لإنتاج الغذاء التي تتفوق على الزراعة التقليدية من ناحية التغلب على التقلبات والمخاطر، مع توفير استهلاك المياه والأراضي الصالحة للزراعة. قد لا تتسبب هذه الطريقة في هبوط الأسعار، إلا أننا نأمل، على الصعيد المجتمعي، أن تسهم الزراعة العمودية في ردم الفجوة بين الطلب الكلي على الغذاء، مُحققةً ما فشلت في تحقيقه الزراعة التقليدية.

آفاق مشجعة لكنها لا تناسب الجميع

لقد تم الاحتفاء بالفوائد الاجتماعية والبيئية والاقتصادية للزراعة العمودية ولكن لم يتم تبنيها على نطاق واسع بعد؛ نظراً لعوامل مختلفة تتعلق بالموقع الجغرافي والاختلاف الثقافي والدعم السياسي وديناميكيات المستثمرين وظروف السوق الزراعية المحلية، فإن ما يصلح للشركات المذكورة أعلاه قد لا يتناسب مع الآخرين الذين يدخلون مجال الزراعة العمودية. علاوة على ذلك، فإن هناك العديد من القيود على أنواع النباتات التي يمكن زراعتها في بيئة داخلية. فعلى سبيل المثال، نباتات الفواكه والخضروات التي تحتوي على الكثير من الوزن غير الصالح للأكل، مثل الأوراق والسيقان والجذور، لن تحقق المنفعة الجيدة من مساحة الزراعة العمودية أو الموارد التي تتيحها هذه الطريقة. أما بالنسبة للمزارعين التجاريين المهتمين بالتوسع في الزراعة العمودية وأصحاب المشاريع الاجتماعية الذين يرون إمكانية استخدام الزراعة العمودية لمعالجة قضايا الغذاء والجوع المحلية، فهناك بضع طرق لتقليل منحنى التعلم المكلف وتحسين فرص نجاحهم:

تغيير مفهوم وتقبلية اتخاذ الزراعة كمهنة

وُصِفت الزراعة التقليدية بأنها مهنة تتطلب العمالة الكثيفة كما أنها بعيدة عن أسلوب الحياة الحديث والحضري. وفي بعض الأماكن، يرتبط العمل الزراعي بالفقر والعزلة، ولكن في المزرعة العمودية، يجب أن يكون المزارعون محللي بيانات وعلماء أحياء ومشرفين على النظام بالإضافة إلى عملهم المباشر مع المحاصيل. وإن فهم هذا التحول في الزراعة يتيح للمهنيين الذين يدخلون أو يعملون بالفعل في مجال الزراعة العمودية بعض الأفضلية عند مناقشة الحاجة إلى تبني الزراعة العمودية مع أصحاب المصلحة المختلفين.

تثقيف المستهلكين

إن الزراعة العمودية لا تتعلق بإنتاج طعام هجين غير طبيعي، لكنها قد تُرى على أنها كذلك إذا لم يتم بذل أي جهود لتثقيف الجمهور. يمكن للشركات استخدام الحملات الترويجية لتوضيح قيمة المحاصيل الزراعية غير الحقلية وتثقيف المستهلكين حول الفوائد الغذائية والبيئية للزراعة العمودية. كما يمكن أن توفر حفلات تذوق الطعام للمستهلكين فرصة لتذوق منتجات الزراعة المائية والهوائية والحكم على المذاق بأنفسهم.

دعم الاقتصادات الغذائية المحلية

يمكن أن تكون الحكومات والمجموعات الصناعية حلفاء مهمين ينظرون إلى إنتاج الغذاء المحلي على أنه تنمية اقتصادية. ففي كندا على سبيل المثال، تدعم وزارة الزراعة والأغذية والشؤون الريفية في أونتاريو (OMAFRA) بنشاط استراتيجية الغذاء الإقليمية، مع دعم المشاريع التي تتنوع بين الحملات الترويجية إلى إنشاء أسواق المزارعين وتمويل الشركات الزراعية لشراء معدات جديدة. وبدعم من (OMAFRA)، أضاف القطاع 1.3 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي وخلق أكثر من 34,000 فرصة عمل بين عامي 2013 و2015. هذا الدعم الحكومي هو علامة على أن حركات الغذاء المحلية هي مصدر موثوق للتنمية الاقتصادية مع عدم وجود علامات على انحسارها.

تشجيع الاستثمارات المستمرة

المستثمرون ضروريون للمساعدة على انتشار الزراعة العمودية وتوسيعها. ففي حين أن بعض الاستثمارات الرئيسية في الزراعة العمودية تحدث بالفعل – تلقت شركة “بلنتي” (Plenty) الناشئة في وادي السيليكون مؤخراً 200 مليون دولار لدعم توسعها العالمي -قد يضطر البعض الآخر إلى وضع خطط إستراتيجية أكثر تفصيلاً، خاصة أن بعض الشركات الناشئة في مجال الزراعة العمودية قد فشلت في نفس الإطار الزمني. على سبيل المثال، قامت شركة “إيرو فيرم” بتأمين تمويل لرأس المال بقيمة 95.8 مليون دولار من خلال تقديم نفسها باعتبارها “شركة للزراعة الحضرية والتقنيات النظيفة” بدلاً من تقديم نفسها كمزرعة غير تقليدية. كما تشمل الاتجاهات الأخرى التي تجذب الاستثمار استخدام تقنية الزراعة العمودية لزراعة محاصيل بنوع خاص من المغذيات مثل خس فوجيتسو منخفض البوتاسيوم.

إعادة النظر في مستقبل الزراعة

على الرغم من أنه لا يمكن توقع أن تحل المزارع العمودية محل المزارع التقليدية، فقد يتعين عليها أن تكوم مكملة للمزارع التقليدية إذا أردنا تلبية متطلبات الغذاء المستقبلية. فهي طريقة فعالة اقتصادياً، وصديقة للبيئة، وتستخدم تقنيات متطورة، والأهم من ذلك أنها مراعية للقيم الصحية. فالزراعة العمودية ليست قصة خيالية؛ بل إنها واقع يحدث الآن أمام أعيننا.