لماذا يجب إعادة النظر في مفهوم الفقر؟

دائرة الفقر
(Illustration by Anna Parini)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ترعرعت مارغريت في تجمّع شقق “باترسون واي”، وهو مشروع إسكان حكومي سيء السمعة وموبوء بالمخدرات يقع في جنوب بوسطن. وعندما كانت تبلغ من العمر 16 عاماً، توفي والدها ووالدتها، وكان ولي أمرها، وهو شقيقها الأكبر، يبيع الكوكايين من شقتهما. وبعد تسع سنوات توفّي هو أيضاً، وأصبح أحد أشقائها الآخرين مدمناً على المخدرات. ولم ينجو من هذا المصير إلا هي وأحد أشقائها الآخرين.

كتبت مارغريت في مذكرات غير منشورة: “في ذلك الوقت، كان بإمكانك إيجاد إبر الحقن في كل مكان في الحي الذي أعيش فيه، بدءاً من الأروقة العامة إلى أسطح المباني التي نقطن فيها، حينها لاحظت الصفقات التي كان الجيران يبرمونها وتواجد الغرباء باستمرار في رواق منزلنا، وأذكر أنني تساءلتُ: ‘كيف سأغيّر هذا الوضع إلى الأفضل؟'” (مارغريت ليس اسمها الحقيقي).

في عام 2009، التحقت مارغريت ببرنامج “فرص العمل للأسر” (Career Family Opportunity) أو ما يُدعى اختصاراً (CFO)، وهو برنامج تقدمه مؤسسة اتحاد كريتينتون النسائي (Crittenton Women’s Union) أو (CWU). في ذلك الوقت، كانت مارغريت أماً عزباء بعمر الثلاثين، غير موظفة ولم تحصل على أي تعليم بعد المرحلة الثانوية ولا تمتلك سوى خبرة عملية محدودة. كما أنها كانت قد عاشت طوال حياتها في مشروع الإسكان الحكومي بجنوب بوسطن، حيث كان يحيط بها أشخاص لم يكونوا يعرفون السبل الكفيلة بتحسين أوضاعهم، مثلها تماماً.

وبعد أربع سنوات، حصلت مارغريت على درجة الدبلوم الجامعي وسددت مبلغ 1552 دولاراً من الضرائب غير المدفوعة، ووفرت ما يقرب من 1000 دولار. وأصبحت اليوم تعمل كمديرة بدوام كامل لبرامج التعليم المجتمعية في أحد المراكز المجتمعية المحلية. وتكتب مارغريت في مذكراتها: “وظيفتي تتيح لي التأثير على مجتمعي. أبذُل قصارى جهدي اليوم كي أعيش حياة طيبة وأعلم ابني كيف يكون أفضل شخص يمكن له أن يكونه منذ الصغر أنا فرد مُنتِج ومُلهِم ومفيد في مجتمعي، ولم أشعر بهذا القدر من الفخر من قبل”.

توضح قصة مارغريت الأثر الذي يمكن أن تُحدثه برامج مكافحة الفقر في حياة الأشخاص، خصيصاً إذا ما كانت هذه البرامج تستهدف صميم الظروف التي تجعل الفقر مشكلة يستعصي علاجها. وقد اكتشف العلماء، في السنوات الأخيرة، أن الضغوط المرتبطة بالفقر غالباً ما تطغى على مهارات التفكير النقدي التي يحتاجها الأشخاص لرسم مسار للخروج من وضعهم واتّباعه. لحسن الحظ، نكتشف الآن أيضاً أن البرامج المخطط لها بإحكام مثل برنامج “فرص العمل للأسر” يمكن أن تتيح للأشخاص تحسين تلك المهارات.

عواقب الضغوط المرتبطة بالفقر

إن أولئك الذين يفهمون واقع الفقر وحقيقته اليوم، يعرفون تمام المعرفة أن التحولات مثل تحول مارغريت أمر نادر الحدوث. حيث تجتمع عدة عوامل مثل غياب شبكة الدعم العام والانتشار المتزايد للعمالة منخفضة الأجر وانخفاض مستوى الدخل المنخفض للأفراد، ما يضع الأسر ذات الدخل المنخفض تحت ضغط مستمر بينما يكافح أفرادها للعمل والاهتمام بعائلاتهم والمحافظة على تلقي المنافع العامة. ويُضاف إلى هذه الأعباء حقيقة أن معظم الوظائف التي من شأنها تحسين ظروف هذه الأسر – وهي الوظائف التي تدفع أجوراً كافية للدعم الأسري – تتطلب تعليماً أعلى من التعليم الثانوي، وبالنسبة إلى معظم الأفراد في الأسر ذات الدخل المنخفض، فإن الجهد الذي يبذلونه للحصول على التعليم العالي يعقّد حياتهم المعقدة للغاية في الأساس.

ولكي ينجح أشخاص مثل مارغريت في انتشال أسرهم من مشكلة الفقر، يجب عليهم اتخاذ جميع قراراتهم بشأن كيفية إنفاق وقتهم وأموالهم المحدودين بحكمة بالغة. وكلما كانت هذه الموارد محدودة أكثر، أصبح كل قرار أكثر أهمية. ولكن كما أدركنا، فإن الظروف المعيشية في ظل الفقر غالباً ما تحدّ من مهارات اتخاذ القرارات لدى الأشخاص.

حيث أنه وفقاً للاكتشافات الناشئة في مجال علوم الدماغ، فالضغوط المترتبة عن أن يكون المرء فقيراً تؤثر سلباً على مهارات التفكير الاستراتيجي والتنظيم الذاتي لديه، وهي المهارات التي يحتاج إليها للخروج من حلقة الفقر المفرغة. تُعرف هذه المهارات بمهارات الوظائف التنفيذية، وهي مهارات أساسية لتحديد قدرتنا على حل المشكلات وتعدد المهام والتوفيق بين الأولويات والتحكم في الدوافع وتأجيل المكافآت الشخصية والمتعة والاستمرار في السعي لتحقيق الأهداف. كما أثبت الباحثون في مركز تنمية الطفل بجامعة هارفارد (Center on the Developing Child at Harvard University) وأماكن أخرى أن العيش في ظل الفقر يهدد مهارات الوظائف التنفيذية بطريقتين أساسيتين على الأقل: أولاً، يخلق الفقر ضغوطاً هائلة تُغرق تفكيرنا وتخلق “ضريبة النطاق الترددي” التي تقلل من جودة القرارات التي نتخذها، أي أنها تضيق نطاق تفكيرنا في الأمور. وثانياً، يمكن للضغوط المرتبطة بالفقر أن تغيّر الطريقة التي يتطور بها الدماغ عند الأطفال الذين يتعرضون لها.

تُظهر الاكتشافات الحديثة في علم الدماغ أن الضغوط الحياتية تضر بالذاكرة، ما يجعل من الصعب على الأشخاص تذكر عدة أشياء في وقت واحد. وتحد الضغوط أيضاً من الحفاظ على المرونة العقلية، والانتقال بشكل متناوب بين الأساليب المحتملة لحل المشكلات وموازنة الآثار المستقبلية للقرارات الحالية. ونتيجة لذلك، فإن العديد ممن نشؤوا في ظروف تنطوي على ضغوط هائلة – أو الذين يعانون حالياً من ضغوط حادة – يجدون صعوبة في تتبع المشكلات المتعددة في حياتهم، وتحليل تلك المشكلات، واستكشاف خيارات للتعامل معها، و تحديد الأولويات حول أفضل السبل للمضي قدماً.

اكتشف العلماء أن الضغوط المرتبطة بالفقر غالباً ما تطغى على مهارات التفكير النقدي التي يحتاجها الأشخاص لرسم مسار للخروج من وضعهم الحالي.

ويُظهر علم الدماغ أيضاً أن الضغوط تستحوذ على نوايانا الطيبة وتزيد من احتمال أن نستسلم لرغباتنا وحوافزنا اللحظية. وحتى إذا تمكنّا من وضع خطة محكمة، فسنجد صعوبة في الالتزام بها إذا كنا نرزح تحت الضغط أو إذا كنا قد عانينا من ضغوط كبيرة أثناء الطفولة.

باختصار، إن الخروج من دائرة الفقر يتطلب من الأشخاص الذين ينتمون إلى الأسر ذات الدخل المنخفض إدارة حياتهم المعقدة للغاية، وتحسين عملية اتخاذ القرار للمثابرة في مواجهة الصعاب الهائلة. إلا أن الاكتشافات الحديثة في علم الدماغ تُظهر أن الفقر يخلق أيضاً ضغوطاً معوّقة تعيق بشكل كبير قدرة الأشخاص على تطوير مهارات الوظائف التنفيذية والحفاظ عليها. إذاً، كيف يمكن للمؤسسات التي تتعامل مع الأسر ذات الدخل المنخفض حل هذه المعضلة المستعصية؟

ورقة واحدة

قبل سبع سنوات، بدأ اتحاد كريتينتون النسائي في بناء إطار عمل جديد يمكّن الأشخاص من تعزيز مهارات التفكير الاستراتيجي لديهم والمثابرة لتحقيق أهدافهم في مواجهة تحديات الحياة اليومية التي عادة ما تُخرجهم عن مسارهم. وإن إطار العمل هذا الذي يسمى جسر الاكتفاء الذاتي (Bridge to Self Sufficiency)، أو “الجسر” اختصاراً، يمثل بنية “دعامة” ترتكز على الوظائف التنفيذية لمساعدة المشاركين على تحقيق التقدم في المجالات الخمسة التي أظهر بحثنا أنها محورية لتعزيز المرونة الاقتصادية بصورة متزامنة، وهذه المجالات هي: استقرار الأسرة والرفاهة والتعليم والإدارة المالية والإدارة المهنية.

يعمل الجسر بصفته أداة لاتخاذ القرارات وتطوير المهارات التي تتيح للمشاركين تحليل نقاط القوة والضعف لديهم وتحديدها ومن ثم وضع أهداف متوسطة وطويلة الأجل في هذه المجالات الخمسة كافة. ويفعل المشاركون ذلك باستخدام ورقة واحدة تتيح للمشاركين والموظفين معاً رؤية ملخص عن التحديات التي يواجهها المشاركون، وأوجه الترابط بين تلك التحديات والحلول المحتملة لها. وتعمل دعامة الجسر باعتبارها أداة تنظيمية لحل المشكلات وأداة لتقوية الذاكرة بالطريقة نفسها التي يستخدم بها الأشخاص الآخرون قائمة مكتوبة أو تطبيقاً برمجياً لمساعدتهم على التحقق من قائمة المهام الخاصة بهم. لكن الاختلاف الأساسي هو أن أداة الجسر مصممة لتنظيم المهام الأكثر أهمية للخروج من دائرة الفقر، وعرضها بصورة مرئية على ورقة واحدة.

في اتحاد كريتينتون النسائي، نشير إلى عملية استخدام دعامة الجسر – جنباً إلى جنب مع مجموعة من أطر العمل المعززة – باسم التوجيه الانتقالي (Mobility Mentoring). حيث وضعنا نهج التوجيه الانتقالي للحد من تحديات مهارات الوظائف التنفيذية المحددة التي يُفضي الفقر إلى تفاقمها. ويهدف هذا النهج إلى تعزيز وضوح نوايا المشاركين وتقوية عزيمتهم الشخصية. حيث يعمل الموظفون المدرَّبون تدريباً خاصاً، والذين يُطلق عليهم اسم الموجهون الانتقاليون، بصفتهم مدربين يعملون مع المشاركين لمساعدتهم على تحديد أهداف وخطط واقعية. وفضلاً عن ذلك، يعمل الموجهون الانتقاليون على ربط المشاركين بالموارد التي يحتاجون إليها لتحقيق تلك الأهداف.

يستخدم المشاركون في غضون عملية التوجيه الانتقالي العقود وأطر القياس وأنظمة الحوافز لتعزيز الأهداف التي وضعوها باستخدام الجسر. ويقيس الموجهون الانتقاليون الهدف الذي يحققه المشاركون في اجتماعات شخصية مباشرة تُعقد على فترات لا تزيد عن ستة أشهر وغالباً بشكل أكثر تواتراً (خاصة خلال المراحل الأولى من البرنامج). بهذه الطريقة، يُنشئ الموظفون عملية روتينية يصبح المشاركون من خلالها أكثر مهارة في تحليل المشكلات وإيجاد الخيارات وموازنة البدائل واختيار خطة والالتزام بمسار العمل. ويضمن هذا العمل التوجيهي بمرور الوقت أن تتطور دعامة الجسر من عملية يُوصى بها من طرف خارجي إلى مجموعة داخلية من كفاءات الوظائف التنفيذية التي تُغني المشاركين عن الحاجة إلى مزيد من التوجيه.

لقد اكتشفنا أن استخدام أدوات مثل الجسر والتوجيه الانتقالي يمكن أن يعود بنفع كبير. ففي السنوات الخمس التي تلت إدماج هذه الأساليب في برنامج “فرص العمل للأسر” بجنوب بوسطن، رأينا سكان مشاريع الإسكان الحكومية الملتحقين بالبرنامج يتخرجون من الكلية المجتمعية بمعدل يزيد عن ضعف معدلات تخرج طلاب الكليات المجتمعية الآخرين في منطقة بوسطن. وبالإضافة إلى ذلك، رأينا أفراداً من هؤلاء السكان يدخرون وسطياً ​​ثلاثة أضعاف ما يوفره الفرد العادي في أسرة أميركية منخفضة الدخل. كما ويعمل ما يقرب من ثلث المشاركين في هذه البرامج في الوقت الحالي في وظائف ذات رواتب تكفي للدعم الأسري، حيث تتراوح رواتبها من 45 ألف دولار إلى 50 ألف دولار سنوياً. علاوة على ذلك، في غضون عام واحد من إدخال برنامج التوجيه الانتقالي في ملاجئ المشردين المؤقتة، ازدادت نسبة السكان الذين كانوا يعملون أو يذهبون إلى المدرسة بانتظام من 45% إلى 80%، وارتفعت نسبة أولئك الذين لديهم مدخرات شخصية قدرها 150 دولاراً أو أكثر من 0% إلى 43%.

تُظهر لنا اكتشافات علم الدماغ أن الضغوط المرتبطة بالفقر يمكن أن تعرّض مهارات اتخاذ القرارات لدى الأشخاص للخطر، على نحو يضمن فعلياً تراكم المعوقات أمام الأفراد في جهودهم للانتقال إلى ظروف معيشية أفضل. لكن ذات النتائج تشير إلى أن جميع الأشخاص – حتى البالغين منهم – يستطيعون الاستفادة من التدريبات والخدمات الأخرى التي تحسن مهارات الوظائف التنفيذية. فمن الأفضل أن نصدق العلم ونجعل منه سبيلاً للحياة، وتدل تجربتنا على أن هذا الأمر يُجدي نفعاً.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.